الكيانية الفلسطينية في عين الهدف!

تنزيل (1).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد المجيد سويلم

 


يطيب لبعض الفلسطينيين عندما يتمّ الحديث عن الكيانية الفلسطينية في هذه المرحلة على الأقل ربطها بصورةٍ مباشرة بالقبيلة السياسية التي تتحمّل مسؤولية هذه الكيانية.
أقصد أنّ الكيانية الفلسطينية هي في الواقع، وكما يتم النظر إليها، وكما يفهمها بعض المثقّفين من ذوي الولاء لهذا المفهوم من الكيانية أو حتى من ذوي المفاهيم الأخرى، المتعارضة أو المتناقضة معه هي كيانية [سياسية] لا ترتبط بالكيانية الوطنية إلّا بالقدر السياسي الخاص بالجماعة السياسية، وبما لا يتجاوز مكانة هذه الجماعة في الوعاء الوطني لهذه الكيانية.
بعد النكبة 1948 مباشرة، وفي سياق استمرارها في هذا البعد الكياني منها تمّت ــ كما أرى ــ عملية منظمة من احتجاز الكيانية الوطنية، بإشراف «غربي» وتعاون عربي.
فقد تمّ إلحاق قطاع غزّة بالإدارة المصرية، وإلحاق الضفة الغربية بالإدارة الأردنية.
وفي الداخل الفلسطيني، وبعد الانتهاء مباشرة من ضمّ «المثلّث» بدأت دولة الاحتلال بوضع الأسس المتكاملة للحكم العسكري، وتمّت عملية ممنهجة للتهجير الداخلي، وإعادة هندسة الفلسطينيين وفق رؤى مستقبلية مدروسة.
سنكتفي في هذا المقال بهذا القدر من الصورة لكي نوضح أن القطاع كان هو المنطقة الوحيدة الذي لأسباب معروفة، وخصوصاً بعد «ثورة الضبّاط الأحرار» في مصر لم يخضع لبرامج مباشرة، من تشتيت وتذويب الكيانية الوطنية، بل على العكس من ذلك أُعيد وبصورة رسمية إحياء هذه الكيانية بعد عدوان 1956، وبعد احتلال القطاع، وأُنيط بالفلسطينيين بعد انسحاب القوات الأجنبية إعادة تنظيم أنفسهم، وامتلاك أدوات ووسائل الدفاع عن وجودهم.
هذا لا يُلغي طبعاً قمع النظام للحركة الشيوعية في القطاع، وكذلك بدء تفكير النظام الناصري ببلورة كيانية وطنية بعد أن اكتشف أن مهمّة تحرير فلسطين لم تعد الهدف المباشر، ولم تعد المهمّة الحصرية الأولى للنظام بعد «دروس» العدوان الثلاثي على مصر.
ومن هنا، بدأ النظام المصري مسار تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وجيش التحرير الفلسطيني، والصندوق القومي الفلسطيني بموافقة ومصادقة دول الجامعة العربية، وهكذا تم عقد المجلس الوطني الفلسطيني التأسيسي الأوّل في مدينة القدس. وتمّ افتتاحه بمشاركة ملك الأردن حسين بن طلال، وبوجود ومشاركة واسعة من النخب والشخصيات الوطنية، وكان ذلك في شهر أيار من العام 1964.
خارج هذه التجمّعات الثلاثة الكبرى تكوّن مفهوم الشتات الفلسطيني وتبلور كحالات خاصة، وليس كمفهوم كياني.
لوحظ أن التجمّعات الفلسطينية في سورية لم تلاحَق في هويّتها الوطنية، وكذلك في العراق ومصر، ولكنها حوصرت وقُمعت في لبنان من قبل ما كان يسمّى «المكتب الثاني»، وتم حرمان هذا التجمّع من أقلّ الشروط الإنسانية، وفُرضت عليه شروط من الإفقار المقصود تحت ذرائع «طائفية» لم تكن سوى الغطاء الذي استخدمه «المكتب الثاني» في خضوعه للسطوة الإسرائيلية.
في مرحلة بحث الفلسطينيين عن ذاتهم، مرحلة الضياع التي عبّر عنها غسان كنفاني في روايته العبقرية «رجال في الشمس» وقبل أن [يدقّوا جدران الخزّان]، والتي مثّلت الصرخة التي زلزلت الوعي الوطني تحت أقدام الشعب الفلسطيني كانت سورية هي الأرضية والأرض التي انبنت عشرات المنظّمات الفلسطينية الباحثة عن الهويّة الوطنية، وتحوّل الشباب الفلسطيني في بلدان الخليج العربي، وخصوصاً الكويت نحو بناء المداميك الأولى للكيانات السياسية الباحثة عن الكيانية الوطنية الكبيرة، أو الجامعة.
المهمّ هنا أن قطاع غزّة تحوّل موضوعياً إلى النواة الصلبة الأولى للوطنية الفلسطينية، ومنها انطلق قطار هذه الوطنية، وكان خط سيره هو: «غزّة، عمّان، غزّة القدس، غزّة دمشق، غزّة الخليج والمهاجِر».
في هذه المرحلة تحرّرت «فتح» من مخاوف الوصاية العربية، وقرّرت أن تتحمّل مسؤولية تفجير الكفاح المسلّح، مهما كان رمزياً حتى ذلك الوقت، وقرّرت أن يكون بناء التنظيم الجديد وطنياً عاماً متحرّراً من الحزبية والأيديولوجيا، وأن تنأى بنفسها عن تجاذبات المحاور العربية من خلال شعار «عدم التدخُّل في الشؤون العربية». في حين رفعت القوى القومية آنذاك كما نعرف شعار «فوق الصفر، وتحت التوريط» كتعبير عن رغبتها بعدم توريط النظام الناصري في حرب ليس مستعداً، أو ليس جاهزاً لها.
تطوّرت الأمور بتسارعٍ مذهل بعد هزيمة حزيران 1967، وأخذت أبعاداً دراماتيكية بعد معركة الكرامة 1968، وانطلق قطار الكيانية الوطنية بسرعة لم تخطر ببال أحد على الإطلاق.
مباشرة استولت التنظيمات المسلّحة على المجلس الوطني الفلسطيني، وخصوصاً «فتح» و»القوميون العرب» الذين أسّسوا «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».
سارعت الأنظمة العربية لتأسيس منظماتها الفلسطينية الخاصّة، حيث أسّست العراق «جبهة التحرير العربية»، وكانت سورية قد بادرت إلى تأسيس «طلائع حرب التحرير ـ قوات الصاعقة»، وحتى النظام المصري نفسه أسّس منظمة «فلسطين العربية»، في حين أن منظمة «جبهة التحرير الفلسطينية» التي تأسّست قبل «فتح» في سورية انضمت إلى صفوف «الشعبية» وبمشاركة ضبّاط عسكريين كبار كانوا يعملون في الجيش العربي السوري.
وحتى عندما تراجع دور العمليات العسكرية انطلاقاً من الحدود الأردنية، وهي ما تسمّى عمليات القشرة عاد قطاع غزّة ليتصدّر المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، وخصوصاً بعد أن انخرطت القوات المحسوبة على «جيش التحرير الفلسطيني» الذي كان في القطاع قبل النكسة 1967 في صفوف الجبهة الشعبية، وتولّدت هناك أكبر عمليات مقاومة للاحتلال الإسرائيلي والتي جعلت قادة جيش الاحتلال يقولون: إننا نسيطر على القطاع في النهار، لأن قوات المقاومة بقيادة محمد الأسود «جيفارا غزّة» تسيطر على القطاع في الليل.
هذا كلّه ليس سوى مقدّمة لا بدّ منها لكي أقول إن القطاع كان ولا يزال أصل الوطنية الفلسطينية الحديثة، وفصلها الأوّل كان ولا يزال معين الثورة الذي لم ينضب أبداً، لا اليوم، ولا في الماضي، لا في مرحلة تأسيس كيانية الشعب الحديثة قبل أكثر من 60 عاماً، ولا اليوم، لا عندما كان عبد الناصر، وأحمد الشقيري، وياسر عرفات، أو جورج حبش، أو أحمد ياسين، أو أيّ قائد أو فصيل أو حزب أو منظمة.
غزّة هي غزّة، أرض البطولات والتضحيات، منذ النكبة وحتى يومنا هذا ترفد البلاد عطاءً ووفاءً ومقاتلين.
غزّة لا تحتاج منّا أن نتنافس على حُكمها، ولا ينقصها من يحكمها، ولديها من الكفاءات ما يدير دولاً بكاملها، وهي ليست بحاجة إلى من يُسقط عليها حُكّاماً كما يسقطون عليها الآن «المساعدات» الطائرة، وغزّة لا تكافئ أحداً، ولن تغفر لأحد، ولن تجامل أحداً.
غزّة لم تنسَ، ولن تنسى الذين صمتوا، والذين أُسكتوا، والذين خذلوا، والذين تخاذلوا.
غزّة لا تريد منكم جميعاً سوى أن تشاركوا في الغُرم قبل أن تتقاتلوا على الغُنم، وغزّة تقول للذين استهانوا بالكيان الوطني، بل وانقلبوا عليه، وحاولوا استبداله ها أنتم رأيتم النتيجة، وغزّة تقول للذين يفترض أنهم أصحاب مشروع الكيان الوطني ها قد رأيتم كيف أننا دمّرنا كياننا الوطني بأيدينا لأننا على مدى أكثر من 30 عاماً لم ندقّ مسماراً واحداً في مسار إعادة بناء المنظمة، وإصلاحها وتحويلها إلى كيان صلب يستحيل هدّه أو التأثير على وجوده.
غزّة تعرف الطريق، الأزمة هي أن المتناسين عليها لا يعرفون.