ثمة نقاش جدي حول دور «فتح» فيما يجري في قطاع غزة خلال العامين الماضيين. وربما كنت من الكثيرين الذين كانوا يودون أن يروا دوراً اكبر لـ»فتح» في الكثير من مفاصل الحياة في القطاع لإسعاف ومساعدة الناس، كما كنت وما زلت ممن ينادون بأن يكون لـ»فتح» دور أكبر في مستقبل غزة بعد الكارثة التي ألحقها تفرد «حماس» بالقرار الفلسطيني المتعلق بمصير القطاع. وكنت وما زلت ممن يقولون بعدم ترك مصير غزة لبهلوانية «حماس» وشيطنتها للآخرين ولأهوائها ومصالحها الحزبية والإخوانية الضيقة. لكن مع ذلك فإن المؤكد بأن «فتح» لا تقف ولا تتفرج، بل إنها تفهم طبيعة المرحلة وتفهم تعقيدات الإقليم. ولكن الآن وبعد مرور عامين على المذبحة فإن «فتح» مطالبة بموقف أكثر صرامة في الدفاع عن مصير شعبنا ومصير وجودنا الفلسطيني في القطاع.
«حماس» تصر على التفرد بمصير غزة، ولا ترى مصيراً لغزة بعيداً عن قبضتها الحديدية وحكمها التسلطي على أهلها، وكما قلت في غير موضع فإن «حماس» لا تريد إلا «حماس». وهي تعرف أن جل سكان قطاع غزة لم يعودوا يتقبلون كل أعذارها وتفسيراتها. وعليه فإن «حماس» تتصرف وفق فهمها الخاص للصراع. والشيء الذي تتفق مع نتنياهو به، رغم اختلاف اللغة واختلاف التبرير هو أن كليهما يريد البقاء في الحكم. وفيما تريد «حماس» ترتيبات تنهي الحرب وتضمن لها البقاء في الحكم فإن نتنياهو يدرك بأن استمرار الحرب هو الضمان الوحيد له.
لذلك بدلاً من فعل الصواب بعد كل ما جلبته إدارتها للمعركة وللتفاوض فهي تقبل ما رفضته في آذار الماضي ثم يرفضه العدو وهكذا، وهو تسليم ملف المفاوضات للجنة من الجامعة العربية تكون تحت قيادة منظمة التحرير ووضع الأسرى في عهدة وقرار اللجنة، فإنها تتحزم بما تطلق عليه الفصائل من أجل أن تحمل الآخرين فشلها.
وبصورة أو بأخرى فإن التنظيمات والجماعات التي حضرت لقاء القاهرة تحت مسمى اجتماع فصائل، هي فعلاً الشريكة الحقيقية في كل ما يجري في غزة سواء بالشراكة في صنع القرار أو باللحاق به والدفاع عنه. بالطبع لم تخض الكثير من تلك التنظيمات أو الجماعات معركة مسلحة واحدة في غزة لكنها منذ البداية أعلنت ولاءها لـ»حماس» ولقرار مكتبها السياسي. ويحزن المرء كثيراً أن يرى تنظيمات عريقة لها دور مهم في صناعة التاريخ الوطني وتاريخ الثورة الفلسطينية تقبل على نفسها هذا الدور. ما أرمي إليه أن ما يسمى اجتماع الفصائل لم يكن أكثر من «حماس» والفصائل التي تدور في فلكها وكان واضحاً أن كل من يحضر اعلن بصوت مرتفع اشتراكه مع «حماس» في كل ما يجري.
وحين ينظر المرء لكل ذلك فإنه يدرك بأن هذا ليس سوى اجتماع حمساوي داخلي مع العائلة والأصدقاء. ببساطة لا فصائل بلا «فتح». لا يحب خصوم «فتح» هذه «النبرة الفتحاوية» لكنها الحقيقة. أيضاً لا حالة وطنية بلا «فتح». إن أي فعل وطني لا تكون «فتح» جزءاً منه وفي مقدمته بحاجة لألف مراجعة. ولعل السابع من أكتوبر وطريقة إدارة ما تلاه يخبران الكثير عن ذلك، فنحن على شفا نكبة جديدة، قد نخسر فيها ما تبقى من الشريط الساحلي لأرض الآباء والأجداد لأن أحداً قرر فجأة أنه يريد أن يحارب ولم يحسب حساباً لشيء.
«فتح» تعد للمليون قبل أن تقدم على أي خطوة، لأن آخر شيء قد تريده «فتح» هو الاستعراض وفرض العضلات في الرأي العام على طريقة ذر الرماد في العيون وعلى طريقة «حدث أمني». «فتح» تتردد لكنه التردد الذي تكون موجته العالية وموجته القصيرة سواسية هما الوطن ومصلحته. لا مصلحة لـ»فتح» غير مصلحة فلسطين.
وعليه فإن كل ما يجري ليس إلا محاولات «حماس» الأخيرة لإنقاذ «حماس» عبر التحزم بعائلتها من الفصائل. الأمر لا علاقة له باجتماع حقيقي للفصائل. تخيلوا، رغم وجود فقط تنظيمين إسلاميين في الساحة الداخلية هما «حماس» و»الجهاد» فإن «فتح» هي من أطلق على اجتماع الفصائل الذي كان يتم منذ عهد الرئيس ياسر عرفات وفي عهد الرئيس «أبو مازن»، القوى الوطنية والإسلامية. وإذ كنت ممثلاً لـ»فتح» في مثل هذه الاجتماعات في غزة في فترة زمنية سابقة فإن «فتح» لم تقدم مصلحتها أبداً على مصلحة الوطن. وخلال فترة حكم «حماس» العصيبة بالحديد والنار لغزة بعد الانقلاب في حزيران 2007 قبلت «فتح» مثلاً أن تترأس اللجنة حركة الجهاد الإسلامي (حليف «حماس» الأول) بعد أن كانت قيادة اللجنة تاريخياً لـ»فتح» وكان الأخ المناضل إبراهيم أبو النجا ترأسها لفترة طويلة، لأن «فتح» كانت تريد أن يحظى النقاش الوطني بحضور الكل الفلسطيني. ترافق مع انقلاب «حماس» تأسيس «هيئة العمل الوطني» التي ترأسها الراحل الدكتور زكريا الآغا وكانت تضم فصائل منظمة التحرير ومع ذلك وحفاظاً على حضور الجميع حافظت «فتح» على صيغة «القوى الوطنية والإسلامية». ما أريده من وراء هذا القول هو أن المصلحة الوطنية تقتضي دائماً البحث عما يجمع لا ما يفرق.
الآن، المطلوب من «فتح» موقف واضح تجاه كل هذا العبث في الساحة الداخلية وفي المصير الوطني. «فتح» التي فهمت ما سيجلبه السابع من أكتوبر على شعبنا الفلسطيني من أهوال لأنها تعرف أن البندقية غير المسيسة قاطعة للطريق، ورغم إصرار القيادة والرئيس على عدم إدانته لجملة أسباب تتعلق بالكفاح الوطني وسيرورته، قررت أن تترك الأمور لعل التدخلات الإقليمية تنتج عن وقف الحرب وإقناع «حماس» باتخاذ موقف وطني جاد لحماية ما تبقى من غزة، الآن، «فتح» مطالبة بموقف جريء وواضح يتعلق بإعلان رفض الهيمنة الحمساوية على مصير غزة وعدم الاكتفاء بقول «لا» بل التدخل بقوة في أي حوار أو مفاوضات حول مصير غزة، والقول بوضوح، إن «حماس» لا تمثل غزة وغير مسموح لها أن تستأثر بمصير غزة. على «فتح» أن تعود إلى قواعد جماهيرها في غزة التي تطالبها بذلك. لن يستقيم حال غزة و»فتح» واقفة تتفرج. أنا لا أقول السلطة بل أقول «فتح» لأن «فتح» هي عمود الخيمة وقوة حضورها يجعل حضور المنظمة والسلطة ممكناً.