سياسات لا تُوقفها النداءات

تنزيل (9).jpeg
حجم الخط

الكاتب: طلال عوكل

 


أخيراً، وبعد تأخير طويل أقرّت مؤسسات الأمم المتحدة المتخصصة أن مدينة غزة، دخلت مرحلة المجاعة، وكأن شمال القطاع، وجنوبه ووسطه، لم تدخل بعد مرحلة الاعتراف بالمجاعة.
المجاعة بعد الاعتراف بحرب الإبادة الإجرامية والعنصرية، تشكّل بحدّ ذاتها جريمة يستحقّ مرتكبها أشدّ العقوبات حتى يتوقّف عن ممارستها، ولكن هذا الاعتراف يمضي من دون محاسبة كما مضت الاعترافات الأخرى.
وبينما تشير الوقائع على الأرض، بشهادات دولية سبقتها إليها توثيقات الفضائيات، وتسبقها وترافقها تصريحات علنية من قبل وزراء في حكومة بنيامين نتنياهو، فإن الأخير يعتبر أن ما ورد في التقرير الأممي كذب وافتراء، وأن الرهائن هم المجوّعون فقط.
الكذب أصبح منهجاً، لم يعد ينطلي على أحد سوى من يحرّضون على إبادة القطاع، بشراً، وشجراً وحجراً، وإلا فإن هذه السردية قد سقطت على نحو مروّع، عند شعوب الأرض.
لم يعد ثمة مجال للكذب، والتدليس، واستغباء الشعوب بعد أن يصدر مراراً وتكراراً عن مسؤولين حكوميين في دولة الاحتلال تصريحات علنية بشأن احتلال القطاع، والدعوة لإعلان السيادة على الضفة الغربية، ووهم «إسرائيل الكبرى»، لم يعد ثمة ما ينطوي على غموض، أو يحتاج إلى تحليلات وتفسيرات، لفعل على الأرض يترافق مع التصريحات المعلنة. قد قالتها هيئة عائلات المحتجزين الإسرائيليين التي حذّرت من أن نتنياهو يقود حرباً مفتوحة أبديّة.
تقرير إعلان المجاعة في غزّة، جاء متأخّراً، كما هو حال «الجنائية الدولية» التي لم تغادر حتى الآن، إعلانها الأوّل، بشأن نتنياهو ووزير الحرب السابق يوآف غالانت، بالرغم من ضخامة الأحداث.
نعلم أن «الجنائية الدولية» تعرّضت وما زالت تتعرّض لضغوط وعقوبات من قبل أميركا، وأنها أي «الجنائية الدولية» تصرّ على متابعة مهمّتها، لكن مهمّتها توقّفت عند حدود الكلام ولم تتجاوز حتى الآن مذكّرتها الأولى.
محكمة العدل الدولية، هي الأخرى تأخّرت كثيراً، وتتباطأ في إكمال قراءاتها للانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها قوات الاحتلال، وتوقّفت عند مذكّرتيها الأولى والثانية التي تضمّنت مطالبات، لدولة الاحتلال ببعض التعليمات.
لا شكّ أن «العدل الدولية» هي الأخرى تتعرّض لضغوطات من قبل أميركا، وتتعرّض الدول التي حملت الملفّ إلى عقوبات وضغوطات، ما يثير التساؤل حول جدوى مؤسّسات العدالة الدولية.
لا يكفّ ترامب عن الإشارة إلى المعاناة الإنسانية التي يتعرّض لها سكان القطاع، ولا يتوقّف عن التعبير عن رغبته في إدخال المساعدات، ولكنه لا يفعل شيئاً فكل ما يهمّه في الأمر، هم المحتجزون الإسرائيليون.
العالم كله ظالم، حين يُبدي الرؤساء والزعماء قلقهم مما يتعرض له سكان القطاع، ولكنهم لا ينسون التأكيد على حق الدولة العبرية في الدفاع عن نفسها، ودعوة المعنيين بالإفراج غير المشروط والعاجل عن المحتجزين الإسرائيليين.
يُغمض العالم أعينه، عن آلاف الأسرى الفلسطينيين الذي يقبعون في سجون الاحتلال، ويتعرّضون للتعذيب والتجويع وأقسى درجات المعاملة السيّئة.
يتناسى العالم، عدد الوفيّات، من الأسرى الفلسطينيين بسبب التجويع، والتعذيب، وغياب الرعاية الصحية، لا يدرك نتنياهو ما يقوله حين لا يعترف بجريمة استخدام الغذاء والدواء والماء في حربه الإجرامية على المدنيين، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، ذلك أن الجاهل يعرف أن المقاومة تبدي أشدّ الحرص على حياة الرهائن باعتبارهم ورقةً مهمة جداً في المساومة مع الاحتلال.
بسبب الدعم الأميركي المستمرّ، والكلي لدولة الاحتلال ودعمه للحرب التي يشنها جيش البطش والإجرام، يُمعن نتنياهو في مواصلة حروبه الدموية، وفي توجيه الإهانات لزعماء ودول حليفة لكيانه الكولونيالي.
وبحسب قوله: من ينوي الاعتراف بالدولة الفلسطينية، يكافئ الإرهاب ويعمل ضد كيانه، ولا يتورّع عن اتهامهم بالتحريض ضدّ السامية، حتى أنه يوجّه إهانات بالمعنى الشخصي لرؤساء ورؤساء حكومات حليفة تاريخياً لكيانه، مثلما فعل مع رئيس الحكومة الأسترالية أنطوني ألبانيزي، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
أميركا تقف سدّاً منيعاً، ضدّ أي مساسٍ دبلوماسي أو سياسي أو حقوقي بدولة الاحتلال، بما في ذلك الضغط على الدول التي أعلنت نيتها الاعتراف بدولة فلسطين خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وبصراحة، تعجز الأمم المتحدة، أمام السياسة الأميركية عن المحافظة على دورها وقراراتها، وهيبتها، ما يعني أن هذه المنظمة الدولية بحاجة إلى إصلاح كبير حتى تتمكن من البقاء كحامية للسلم والأمن العالميين.
إذا كانت مؤسّسات العدالة الدولية، والأمم المتحدة بقضّها وقضيضها، تعجز عن حماية قيمها ودورها وقراراتها، ومحاسبة من ينتهك هيبتها، فإن اللوم يقع على من يملك وقف حرب الإبادة الإجرامية، وتدمير منظومة القيم الإنسانية، ولا نقصد بطبيعة الحال أميركا باعتبارها المسؤولة والشريكة للاحتلال.
نقصد بذلك المنظومة العربية والإسلامية التي تملك ما يكفي من أوراق القوة التي تضع حدّاً للسياسة الأميركية، والتغوّل الإسرائيلي على البشر والقيم، والجغرافيا، وسيادة وحقوق دول المنطقة المشمولة وغير المشمولة بخارطة «إسرائيل الكبرى».