احتدام الجدل بين الحرب والتفاوض

WptCE.jpg
حجم الخط

الكاتب: رجب أبو سرية

 


يمكن القول حتى قبل أن تضع حرب الإبادة الإسرائيلية على فلسطين رحالها، وبغض النظر عما ستسفر عنه من نتائج، بأن الجدل حول أسباب تلك الحرب ومن ثم مسارها، وبعد ذلك ما تمخض عنها من نتائج وآثار، سواء كانت قريبة المدى، أو بعيدة، وهي _ أي نتائج الحرب، رغم ادعاءات النصر هنا أو هناك، لن تكون بسيطة أو عابرة، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا بأنها لن تتوقف عند حدود فلسطين وإسرائيل، ولن تقتصر بتأثيرها على جوار فلسطين وإسرائيل، وقد بات واضحاً وجلياً، بأنها ستؤثر وبعمق على كل تركيبة الشرق الأوسط، ولا شك بأن ذلك يعني بأنها بقدر ما مست النظام العالمي، فإنها ستؤثر على مجمل العالم، إن كان على مستوى العلاقات الدولية، أو حتى على النظام العالمي نفسه.
وبالإشارة الى نية الفاشيين الإسرائيليين مواصلة الحرب أعواماً أخرى، وذلك استناداً لما يقولونه هم شخصياً، عند حديثهم عن إعادة احتلال قطاع غزة بالكامل، عبر العملية العسكرية المسماة «عربات جدعون 2» ويقدرون بأن ذلك سيحتاج نحو عامين الى ثلاثة أعوام، وبذلك فإن هذه الحرب ليست أطول حرب تجري بين إسرائيل وجيرانها من الفلسطينيين والعرب وحسب، بل هي الحرب التي ارتكبت فيها جرائم الحرب بشكل واضح ومكتمل ومثبت، وفق المنظمات الدولية بما فيها القضاء الدولي، كذلك هي لم تقتصر على فلسطين، اي قطاع غزة والضفة الفلسطينية وحسب، بل تضمنت سبع جبهات، كما يقول مجرمو الحرب الإسرائيليون أنفسهم، وكان من نتائجها حتى الآن التأثير على الترتيب الداخلي اللبناني، واحتلال قرى وبلدات أخرى في جنوبه، كذلك أدت الى التغيير في النظام السوري، واحتلال أراضٍ سورية إضافية، ووصل الأمر الى ان تفرض إسرائيل منطقة أمنية منزوعة السلاح في كل الجنوب السوري حتى دمشق، بل وأن تذهب إسرائيل أبعد من ذلك لتصبح لاعباً داخل الملعب السوري مع الدروز.
كذلك شملت هذه الحرب في أحد مساراتها وقوع الاشتباك المسلح، بشكل مباشر لأول مرة في التاريخ بين إسرائيل وأميركا من جهة وإيران من جهة أخرى، والأمر نفسه تكرر مع اليمن، وما زال الحال قائماً بين اليمن وإسرائيل، نقصد واقع الاشتباك، فيما يطل برأسه بإمكانية ان يعود مجدداً وبأية لحظة بين إيران وإسرائيل.
أما على صعيد الخسائر، فحدّث ولا حرج، فهذه الحرب هي معركة كسر عظم. فعلى الصعيد الإسرائيلي وحتى الأميركي وهما أحد طرفي الحرب، هناك خسائر غير مسبوقة على صعيد القتلى والجرحى، بمن فيهم المنتحرون، وهناك من هُجروا في الشمال وفي الجنوب، بعد ان دخل الداخل او المجتمع الإسرائيلي، لأول مرة ميدان الحرب، التي كانت تدور في السابق داخل الأرض العربية، وكانت المجتمعات العربية ميادينها، فيما كان المجتمع الإسرائيلي يتابع تفاصيلها عبر وسائل الإعلام، وهناك خسائر اقتصادية، كذلك خسارة داخلية فادحة، تمثلت في استمرار الانقسام الداخلي، بعد الصراع على القضاء، وقانون تجنيد الحريديم، كذلك هناك انهاك في المؤسسة العسكرية وحتى الأمنية، والأهم بالطبع هو الخسارة السياسية الفادحة على مستوى المكانة الدولية، وشراكة أميركا مجرمي الحرب، أثارت خاصة في عهد ترامب السؤال حول جدارتها بقيادة النظام العالمي.
إن التنديد بإسرائيل على مستوى شعوب العالم ودوله سيصل ذروته بعد أقل من شهر في الاجتماع السنوي للجمعية العمومية للأمم المتحدة، حيث من المؤكد ان تعلن عشرات الدول إضافةً الى 145 دولة أخرى، اعترافها بدولة فلسطين، وواضح بأن إسرائيل ليس فقط لم تتعرض لمثل هذه الحالة من قبل، بل تعيد التذكير بما كان عليه حال جنوب أفريقيا أيام نظام الفصل العنصري، حيث نجح العالم في إسقاط ذلك النظام بعد ان واصل رفضه له.
أما على الجانب الآخر للحرب، فيمكن القول، بأن سقوط نظام الأسد في سورية، كان ضربة موجعة لما يسمى بمحور المقاومة أو الممانعة الذي تقوده إيران، كذلك ما تعرّض له حزب الله في لبنان من خسارة مست قيادته، وتمثلت بتدمير جزء كبير من قوته العسكرية، وما انتهى إليه الأمر ليس فقط بالعودة لاتفاقية وقف إطلاق النار حسب القرار 1701 للعام 2006، بل الأهم ما تلاه من تفعيل مؤسستَي الرئاسة والحكومة، ومن ضغط داخلي وصل أخيراً الى إقرار الحكومة بجمع سلاح الحزب حتى ما بعد «الليطاني»، كذلك صمت جبهة الإسناد العراقية، وما تعرضت له إيران من ضربات أضرّت دون شك بهذه الدرجة او تلك بما أنجزته من تخصيب لليورانيوم، أما على الصعيد الفلسطيني، فإن هناك خسائر بشرية فادحة، وهناك دمار هائل، بل كامل لكل قطاع غزة، ومختصر القول إن مجرمي الحرب أعدموا الحياة تماماً في غزة، وقتلوا وجرحوا خُمس السكان حتى الآن.
لكن الحرب لم تضع أوزارها بعد، ولذلك فإن النتائج ما زالت معلقة، وذلك ارتباطاً بالأهداف البعيدة التي لم تتحقق بعد، وقد بات الصراع او الجدل، بين استمرار الحرب وبين وقفها، أي بين العمليات العسكرية الإسرائيلية متوالية التسميات ومتتابعة التنفيذ، وبين جولات التفاوض، بحيث يمكن القول بأن التفاوض نفسه كان جبهة حرب هو الآخر. والحقيقة أن جدل الحرب والتفاوض كان قد بدأ مبكراً، وكان في عهد بايدن محمولاً على عاتق الجانب الأميركي بالدرجة الأولى، وذلك لتحقيق هدف مزدوج، الأول هو تجنب الضغط على المندوب الأميركي في مجلس الأمن، حيث كان يواجه كل المندوبين الآخرين الأربعة عشر، الذين يطالبون بوقف الحرب، بناء على قرار محكمة العدل الدولية، على الأقل، وحتى يخفف التفاوض من حدة الاحتجاج العالمي ضد الحرب، بما في ذلك عائلات المحتجزين، فالتفاوض يذر الرماد في عيونهم ويخدرهم، بإيهامهم بأن الصفقة في الأفق، وهذا أيضاً ما تابعه ترامب، الذي كثيراً ما قال إنه خلال أيام هناك أخبار جيدة، والهدف الثاني كان الحفاظ على ناخبي الحزب الديمقراطي لصالح المرشحة كامالا هاريس.
وبقدر ما خسرت غزة، وحماس التي في طريقها للخروج من حكم غزة، وربما أبعد من ذلك، وبقدر ما خسر اليمين الحاكم الإسرائيلي، الذي يواصل الحرب خشية تفكك الائتلاف والذهاب الى انتخابات هو خاسر فيها وفق استطلاعات الرأي، فإن السلطة الفلسطينية ربحت تأييداً عالمياً متجدداً لحل الدولتين، كذلك تعزز اليسار الإسرائيلي، على الأقل ان حزب الديمقراطيين بات شريكاً مهماً في أي حكومة قادمة تكون بديلاً لحكومة اليمين واليمين المتطرف الحالية، وهذا منطقي تماماً، وعلى الأغلب فإن ترامب والجمهوريين سيخسرون كذلك، في حال استمرت الحرب شهوراً، او أعواماً أخرى، لذلك يريد ترامب نهاية سريعة، وإن كان ذلك عبر استمرار الحرب وتكثيفها لتحقيق أهداف نتنياهو ولكن بسرعة، وأخطر هذه الأهداف هو تهجير سكان القطاع، حيث ما زال اليمين المتطرف يتشبث بما قاله ترامب خلال استقباله نتنياهو أول مرة في البيت الأبيض.
وكانت محطات الجدل بين التفاوض والحرب قد ظهرت في مبادرة بايدن في أيار العام 2024، وذلك بعد ستة شهور من أول صفقة تبادل، ثم كان دخول ترامب فارقاً في يناير، حيث ظهرت الصفقة الثانية، ولكن نتنياهو اكتفى بتنفيذ مرحلتها الأولى للحفاظ على سموتريتش في الحكومة، ثم كان التحول بعد حزيران، اي بعد توجيه الضربة المزدوجة لإيران، ولم يعد هناك من هدف لاستمرار الحرب سوى تحقيق هدف التهجير في غزة، وهو هدف يجمع نتنياهو مع سموتريتش وابن غفير، مع ترامب، لذلك ولأن هذا يهدد مباشرة مصر أولاً والأردن ثانياً، فقد ارتفعت عقيرة السياسة المصرية، التي كانت تصدت لخطة ترامب حين طرحت بهدوء وذكاء، وبعد ان كانت مصر تقول بأنها لن تشارك في التهجير لأنه يصفّي القضية الفلسطينية ولأنه غير أخلاقي، قال وزير خارجيتها قبل أيام، بأن مصر لن تسمح بالتهجير، أي لن تكتفي بالإعلان عن رفضه، ولتأكيد هذا الموقف دفعت بأربعين ألف جندي إلى سيناء مع معدات ثقيلة ودفاع جوي، وأجبرت حماس على قبول خطة ويتكوف التي كان قبلها نتنياهو، وذلك للحيلولة دون انطلاق «جدعون2» التي تهدف دون شك لتنفيذ التهجير.