مطلوب اتخاذ موقف من واشنطن

تنزيل (13).jpg
حجم الخط

الكاتب: عاطف أبو سيف

 

القرار الأميركي بسحب تأشيرات دخول الوفد الفلسطيني للولايات المتحدة لحضور دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة دليل آخر على الانحياز الأميركي الأعمى لجرائم الإبادة التي تقوم بها إسرائيل بحق شعبنا، وهي تتطلب موقفاً فلسطينياً حازماً من إدارة ترامب، بل من الإدارة الأميركية بشكل عام في ظل الصلافة والإنكار اللذين تواجه بهما الحقوق الفلسطينية في واشنطن.
كل مرة تثبت واشنطن أنها أكثر عداء لحقوق الشعب الفلسطيني من أي وقت مضى.
بل إن تطور مواقفها السياسية لا يحدث إلا بعد انزياح في مواقف إسرائيل.
فهي لا تسبق الموقف الإسرائيلي بل تتبعه. لم تترك واشنطن شيئاً لم تقم بفعله من أجل الانتقاص من حقوقنا الوطنية.
انتبهوا الأمر لا علاقة له بإدارة ترامب حتى لا يتم تصغير الأمور وكأن الإدارات السابقة كانت أفضل.
منذ فجر الصراع وضعت واشنطن نفسها في خدمة المشروع الصهيوني وكرست كل قدراتها وقوتها من أجل تعزيز حضور إسرائيل ومحاربة أي توجه لمعاقبتها. واشنطن لا تعتبر نفسها حليفاً لتل أبيب بل تعتبر أن حماية أمن إسرائيل ووجودها هو جزء من حماية المصالح الأميركية.
وربما في نسق العلاقات الدولية مثل هذه الحالة غير موجودة إلا ضمن علاقة «الحماية»، وإسرائيل بالفعل تتمتع بحماية لا متناهية من قبل واشنطن التي تضع نفسها وسلاحها واقتصادها وقوتها في المؤسسات الدولية لخدمة مصالح ومطامع إسرائيل.
بل إن واشنطن تصالح وتخاصم وفق رغبات تل أبيب. فالدول قريبة أو بعيدة من واشنطن بقدر قربها أو بعدها عن تل أبيب.
صديق إسرائيل صديق لواشنطن وعدوها عدو لها. نمط تكاملي في العلاقة لا يمكن توصيفه إلا بالعبارة القديمة بأن إسرائيل ليست بأكثر من ولاية أميركية أخرى.
فقط ضمن هذا النسق يمكن فهم كيف يمكن لدولة أن تضع كل قدراتها للدفاع عن دولة أخرى، وكيف يمكن لعاصمة أن يكون شارع في مدينة في دول أخرى أهم من أمنها، وفقط ضمن هذا الفهم يمكن النظر إلى السلسلة الطويلة من قرارات الفيتو التي اتخذتها واشنطن لعرقلة أي قرار أممي قد يمس إسرائيل أو يأتي على ذكرها بسوء.
كتبت في أكثر من مرة أن العالم يستحق قيادة أفضل من أميركا، وأن الحضارة البشرية لا يمكن أن تتوج بعد آلاف السنين من التراكم الإيجابي بقيادة بمثل هذا المستوى من عدم احترام القانون والأخلاق.
نعم العالم الذي عبر مئات الأزمات والحروب لم يجد نفسه يوماً أمام حالة مثل تلك، حيث يمكن لشخص لمجرد أنه فاز في الانتخابات في دولة ما يقوم بالتحكم بمصير شعوب الأرض.
قديماً كان الطغاة يفرضون أنفسهم بالدم والقتال والمعارك، ورغم أن هذا ليس مقبولاً بكل الأحوال إلا أنه كان جزءاً من بناء الإمبراطوريات والدول الكبرى، أما الآن وفي زمن صعود الديمقراطيات وترسيخ التنظيم الدولي الحديث وفق القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والمبادئ الناظمة لهما ولحقوق الإنسان فإن فكرة هيمنة دولة ما وسطوة رئيسها على السياسة الدولية تعد انتهاكاً صارخاً لقيم التنظيم الدولي وخرقاً لكل السائد من القوانين.
أميركا ليست قدرنا وليست قدر العالم ليتم التعامل معها وكأنها حقيقة مسلم بها في العلاقات الدولية والسياسة.
لا أحد ينكر قوة أميركا وحقيقة أنها أكثر قوة فتكاً في العالم، كما لا يمكن إنكار قوتها الناعمة في مجال الأدب والفن خاصة السينما، لكن أيضاً هذا لا يعني التسليم بمنطقها في التعامل مع الأشياء وانحراف قيمها السياسية؛ هذا إن وجدت مثل هذه القيم.
هناك فرق كبير بين الحقائق وبين التعامل معها. أميركا ليست قدرنا بمعنى أننا يمكن أن نمنعها من التدخل في ملف الصرع.
ببساطة أميركا ليست وسيطاً، فهي طرف أساس في الصراع إلى جانب إسرائيل. إذا تم تعزيز هذا الفهم وترويجه والتصرف وفقه يمكن أن يحدث شيء ما.
تغير أميركا يتطلب وقتاً طويلاً لأنه يتطلب تغير الرأي العام في المجتمع الأميركي وهو ما يمكن أن يحدث ولكن لتعزيز ذلك يجب محاصرة هذا التطرف الأميركي ضدنا.
أكثر شعب على وجه الأرض يعرف أن العالم ليس عادلاً هو شعبنا الفلسطيني الذي لم تتفق أوروبا على شيء خلال مائة سنة إلا على فكرة سرقة بلاده منه وجلب سكانها اليهود وتوطينهم فيها.
أوروبا التي خاضت حروباً داخلية فيما بينها أكثر من تعداد دولها في مائة عام، لم تتفق على شيء بالمطلق حتى بعد الحرب العالمية الثانية إذ ظلت مقسمة بين شرق وغرب، لم تتفق على شيء واحد إلا على «طرد» اليهود منها تحت مسميات أقل وقعاً مثل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وفي لحظات النشوة الدينية بحجة تحقيق الوعد الإلهي وتسريع قدوم المسيح ببناء الهيكل وغير ذلك من القصص. ومع ذلك فإن هذا الظلم الذي وقع على شعبنا يحتم موقفاً راسخاً من واشنطن؛ موقفاً يقوم على رفض كل ما تقوم به وإغلاق أي تدخل لها في الصراع.
لا أحد يستطيع أن يتدخل في الصراع الأكثر سخونة في العالم دون موافقة الفلسطينيين.
وعليه فإن إغلاق الباب أمام واشنطن وعدم التعامل معها بأي شكل أمر ممكن. والقيادة الفلسطينية جربت هذا في وقت سابق وكان مثمراً.
ومع هذا تظل ثمة مشكلة واحدة هي عدم وجود موقف فلسطيني موحد في ظل «لهث» حماس لمصافحة مع ويتكوف أو حتى مع مرافقه الشخصي.
ومع ذلك فإن الموقف الفلسطيني الرسمي يجب أن يرتكز على محددات جديدة لرسم العلاقة مع واشنطن حتى يتم إحداث تحول حقيقي في الموقف المجافي للمنطق والمناقض للقانون الدولي والمنحاز بشكل أعمى لتل أبيب ولحربها ضد الشعب الفلسطيني.