في مشهد مأساوي مليئ بالمرارة والوجع، الدماء في كل مكان، الإصابات مختلفة لأشخاص تتنوع أعمارهم وأجناسهم، بعضهم ملقى على والبعض الآخر بالكاد حصل على سرير ليُلقي عليه جسده المصاب، الغرف مليئة والأقسام متضررة فيضطر الأطباء لوضع المصابين والجرحى والمرضى في ممرات المشفى وساحاتها.
مئات الأرواح التي تأن يُسمع صراخها من مسافات بعيدة فذاك مبتور القدم وذاك مبتور اليد وآخر كلتاهما معا، والبعض منهم لم تبتر منه شيء لكن جسده أصبح ساحة شاسعة لأسياخ الحديد "بلاتين" فتركته مُقعداً عليلاً لا يتحرك منه شيئاً.
الوضع المُزري الذي تشهده مستشفيات قطاع غزة وخصوصاً في مدينة غزة كمشفى الشفاء والمعمداني وحمد في شماله، وضَّع الكوادر الطبية في مأزق كبير فجميع الإصابات القادمة من زيكيم "نقطة المساعدات الإنسانية" تحول عليها مباشرة فيضطر الأطباء للتعامل معهم على الأرض في حدود الإمكانيات المتاحة لتضميد الجراح وتخييطها، والبعض الآخر يتم فتح غرف العمليات له مباشرةً وتأجيل العمليات المجدولة لأطباء وتخصصات متعددة لأوقات تسمح لهم بإجراءها.
"نفاضل بين العمليات لإنقاذ الأرواح"
طبيب العظام في مشفى الشفاء، الدكتور عمار، يقول: "إنَّ الوضع يزداد سوءًا يوماً بعد يوم، غرف العمليات مشغولة منذ فترة لإنقاذ الحياة فقط في حين تم تأجيل أيّ عمليات أخرى لوقت لاحق".
وتابع، في حديثٍ خاص بمراسلة وكالة خبر: "منذ شهر ويتم تأجيل جميع العمليات الخاصة بنا لوقت بعيد نظراً لكثرة الإصابات التي تأتيني من نقاط المساعدات، فيضطر الأطباء لإنقاذ أرواحهم بإجراء عمليات عاجلة ودقيقة، وبالتالي الجدول الذي تم وضعه مسبقاً لحالات سابقة تبيت في الأقسام تُلغى تلقائياً لوقت يسمح بذلك".
وأضاف: "أصبحنا نُفاضل بين العمليات بمعنى أننا ننظر للحالات الأكثر صعوبة والعاجلة والتي يمكن أنّ يؤدي تأخيرها لأضرار جسيمة على المريض، فنجريها أيضاً في وقت يسمح بذلك، مثال ذلك جاءتنا حالات لشباب يجب بتر أقدامهم، وأخرى أرجلهم مفتوحة وتحتاج لتخييط الجرح ووضع بلاتين داخلها فنحن كأطباء ندرس الحالات من حيث الخطورة على حياة المريض ونقوم بإجراء العملية كالجريح الذي يحتاج لعملية بتر للقدم قبل أنّ تُصاب بالغرغرينا وتنتقل لمناطق أخرى من جسد الجريح، وأمثلة الحالات كثيرة لدينا كالقدم المفتوحة وعظامه بارزة منها".
ولفت الطبيب إلى أنّه في مستشفى الشفاء ينتظرون تنسيقات من مستشفيات الوسطى والجنوب للسماح لهم بإجراء العمليات لهؤلاء المرضى لديهم لتخفيف الضغط عليهم داخل المشفى.
"أطباء يطلقون النداء الأخير"
مدير مستشفى، الشفاء الدكتور محمد أبوسلمية، أكّد على أنَّ المستشفى تُعاني من نقص كبير جداً في غرف العمليات وكل المستلزمات الطبية، وهم عاجزون عن التعامل مع العدد الكبير من الجرحى والمرضى، لافتاً إلى أنَّ المنظومة الصحية مُقبلة على كارثة إذا أقدم الاحتلال على اجتياح مدينة غزة.
وقال أبو سلمية: "لدينا ما بين 1500 إلى 2000 جريح لا نجد لهم مكاناً في مستشفيات القطاع".
وفي تصريحات أخرى لوزارة الصحة الفلسطينية، أكّدت على أنّ أعداد المرضى تفوق القدرة الاستيعابية.
وقد بلغت نسب إشغال الأسرّة في مستشفى الشفاء 240%، وفي مستشفى الرنتيسي 210%، وفي مستشفى ناصر 180%، أما في المستشفى الأهلي العربي فقد بلغت 300% المستشفيات تلجأ لفرش الممرات والأرضيات لإستيعاب الزيادة في أعداد المرضى والمصابين.
" أنتظر إجراء عملية منذ 10 أيام"
أحمد شاب في العقد الثالث من عمره، وكغيره من الشباب الذين يبحثون عن لقمة العيش ذهب لمنطقة زيكيم شمال القطاع للحصول على أيّ شيء يسد فيه جوع أطفاله الصغار الذين يتضورون جوعاً.، وما إنّ وصل إلى هناك حتى تدافع الناس قاصدين شاحنة المساعدات فتخبط بينهم لا يدري إلى أين يذهب حتى انتهى به الحال بجوار الشاحنة التي قامت بدهسه مع غيره فأصبحت قدمه تحت عجلات الشاحنة والتي لولا عناية الله تدخلت وقام أحد الشباب بسحبه قبل أنّ ينتهي جسده كاملاً تحت عجلات الشاحنة، فقاموا بنقله لمستشفى الشفاء.
ويُحدث مراسلة وكالة خبر، قائلاً: "لما وصلنا مستشفى الشفاء كانت طول الطريق رجلي تنزف، احساس الوجع كان لايوصف ..ما صدقت أوصل المستشفى حتى رمونا على الأرض، بين بركة دم كتير من الشباب معي الي مطخوخ بجسمه والي داعسه شحن متلي واللي انخنق من التدافع ووقع على الأرض واتكسر من جري الناس فوقه، كان مشهد صعب وما كان معي حدا ولا معي جوال أقدر أتواصل فيه مع أهلي، غير لما ابن حلال شافني مقطوع ومرمي عرف قصتي أعطاني جواله وكلمت أخوي وفش ربع ساعة كانوا أهلي عندي".
وأكمل: "قعد أبوي وأخوي ساعة وهما لسا واقفين دور يطلعولي ورقة دخول للاستقبال من كتر الناس الموجودة وساعة لما استنينا دور وأنا دمي سايح على الأرض مشان نفوت على غرفة الجبس والغرز، ولما وصلنا الدور حكالنا الدكتور بناءً على صورة الأشعة الي عملتها قبل ما أدخل لعنده إنه ما راح ينفع رجلي تتغرز أو تتجبس، لازمها عملية، أنا قلت عملية عملية المهم أخلص من الألم الفظيع الي بحس فيه، وكنت فاكر بعد ساعة أو يوم أو حتى يومين أكون خلص عملتها وروحت!".
وأردف: "مر على وجودي بالمشفى عشر أيام نايم على الأرض، ما في سرير فاضي ولا مكان حتى جوا المستشفى فاضي بالعافية قدرت أدبر مكان< بالكورديور> بممر بين غرف المستشفى فرشولي فرشة ونمت على الأرض، كنت كل يوم بشوف الموت رجلي مفتوحة متل صفحات الدفتر وعظمي مكسور وجسمي كله كدمات وجروح ووجودي بالمستشفى وعدمه واحد قاعدين يغيرولي على رجلي بضمادات جروح جديدة وتاركيني من غير عمليه وبعد معاناة وأخد وعطا مع الأطباء الي كانوا دايماً يحكولي إنه الأمر مش بايدهم، أجى الفرج وكان اسمي بين خمس أسماء مترشحة لعملية تاني يوم في مستشفى بالمحافظة الوسطى، عارفين وقتها شو حسيت، حسيت متل الي كان بالبير وبيطلع على الناس من فوق لا قادر يطلع ويتنفس مع الناس ولاهما كانوا قادرين ينزلوا والحمد لله انعملت العملية وماصدقت أروح، أنا بنعمة كبيرة بعد الي شفته بالمستشفى والناس المقطعة والمجروحة ومكسرة بدهم عمرين فوق عمرهم مشان يطيبوا بعد مشيئة رب العالمي".
يُذكر أنّه في ظل تهديدات الاحتلال بتوسيع العملية العسكرية في غزة وإفراغها من سكانها وإجبارهم على النزوح نحو الجنوب وإفراغ المستشفيات من المرضى والكوادر الطبية، سيتكرر المشهد المعتاد قبل سنة وسنتين حين حاصرت الدبابات الإسرائيلية مستشفى الشفاء وقصفوا بعضاً من أقسامه فوق رؤوس من يتواجدون فيه من مرضى وأطباء ونازحين لإجبارهم على الخروج نحو الجنوب لكنهم رفضوا فكان مصيرهم عشرات المجازر المروعة التي ارتُكِبت بحقهم عدا عن مئات الشباب الذين اعتقلوا والمستشفى التي تم قصفها وتدمير أجزاء منها، سيتكرر المشهد وربما نشهد مزيداً من التدمير والقتل عبر شاشات التلفاز أمام عالم ظالم صامت ومتخاذل عما أصاب هذا الشعب منذ أكثر من سنتين، حيث دمَّر الاحتلال كل شيء في غزّة ولم يترك سوى حسرات وألم لن يُمحى دهراً بأكمله.





