بين صفقة جزئية وصفقة شاملة وبين حانا ومانا ضاعت البلاد، لأن هناك من يستطيب فن الكلام ولوغارتيمات النقاش. لم يبقَ الكثير لنربحه لكن هناك الكثير الذي يمكن إنقاذه، ومع ذلك فإن «حماس» مرة أخرى لا ترى إلا ما تراه، ولا تريد أن تشاهد إلا ما تبثه فضائياتها الصديقة التي تسخر نفسها لخدمتها، وهي في الحقيقة تغرر بها ليس أكثر وتخدم أجندات أكبر مما يجري، لأنني لن أقول أكبر وأخطر من أجندة «حماس»، لأن المرء بعد قرابة عامين من الحرب وبعد سياسات ومواقف «حماس» التي لا يمكن أن تخدم المصلحة الوطنية بل تغرق غزة يوماً بعد آخر، يصعب القول، إذا ما كانت فعلاً أجندة «حماس» تختلف عن الأجندات الهدامة السائدة.
تعتقد «حماس» أنها عبر الجدل الذي تجريه تقوم بعمل بطولي خارق. ويطيب لها وجمهرة المطبلين على السوشال ميديا أن يقتبسوا من بعض المصادر الإسرائيلية المجهولة والمعلومة لهم فقط عبارات تتحدث عن خيبة في الجيش وتمرد ورفض وعن خلافات داخل «الكابينت» وبعض المقالات من الصحف الإسرائيلية التي يظنون أنها تتحدث عن انتصار الفلسطينيين لأن كاتبها قلق على مستقبل إسرائيل، فيما كاتبها يتحدث عن مصلحة إسرائيل وليس عن الفلسطينيين. ما أقوله، إن «حماس» تعتقد أنها بفعلها هذا فهي تكسر إسرائيل. أنا أعرف أن من يرفض يكون صاحب القرار على الأرض، من يقول، «لا» يستطيع أن يوقف تقدم الدبابات، وله قدرة على منع الطيران من التحليق في السماء. إن نفخ العضلات والاختباء بين الناس جريمة وطنية يجب المحاسبة عليها، ومرة أخرى في لحظة ما يجب أن يجرى نقاش وطني حقيقي تتم فيه مساءلة «حماس» عن كل ما فعلت وعن المصير الأسود الذي رمت فيه قضيتنا الوطنية. من يقول، «لا» يجب أن يكون قادراً على حماية هذه الـ»لا»، ويحول رفض الآخر لما يقترحه إلى قبول. ما يجري هو العكس، فإسرائيل في كل مرة تنجح في دفع «حماس» لقبول ما كانت ترفضه قبل شهر ثم حين تقبل به «حماس» ترفضه إسرائيل وتضع شروطاً جديدة تقوم «حماس» برفضها ثم ستقبل بها لاحقاً. وحين تقبل بها «حماس» يكون الشعب الفلسطيني قد دفع آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى وتهدم جزء آخر من غزة، وتعذب الناس أكثر. واضح أن الوقت ليس مهماً بالنسبة لـ»حماس»، وواضح أن «حماس» لا تنظر إلى ما يجري في غزة ولا يهمها أي شيء آخر. على هذه الصفحة كتبنا إن «حماس» لا تعرف إلا «حماس» وهي لا ترى إلا ما يراه قادتها وهم إما في فنادق العواصم الشقيقة والصديقة وحول طاولات مسؤوليها أو في الخنادق، وكلاهما لا يعيش مع الناس ولا يعاني مثلهم.
تخيلوا الفيديو الذي بثته «حماس» للجنديين الإسرائيليين، مؤخراً. أنا لا أعرف ما هي الحكمة من تصوير الأسيرين يتجولان في مدينة غزة ويتم التعمد بإبراز ما تبقى من الأبراج والبنايات ذات الطوابق المرتفعة في المدينة ثم في نهاية الصورة يقضم الأسير فاكهة بل إنه يقوم بالتعريف على المكان. هل من حكمة وراء ذلك. الفكرة الأساسية التي استخلصها العالم أن غزة لم تدمر. انظروا ثمة بنايات ذات طوابق مرتفعة لم يتم هدمها. الخلاصة إن دعاية الفلسطينيين حول هدم إسرائيل لغزة غير صحيح. فغزة ما زالت مدينة كاملة وإن انتشرت بعض الخيام هنا وهناك. والأهم أن الأسير في سيارة فارهة يتجول في غزة التي يبدو كل شيء فيها مسالماً.
والأسوأ من ذلك كيف تستخدم «حماس» المواطنين الأبرياء العزل وخيامهم كومبارس في أفلامها الهوليوودية. فمن أجل أن تقول، إنها لم تهزم وإنها ما زالت واقفة وصادمة والدليل ها هو الجندي الأسير ليس تحت الأرض بل يتجول في سيارة حديثة وينظر للناس ويتكلم عن الخبز والأندومي مثلهم ويتم تصويره وسط الناس. والنتيجة ليست بحاجة لكثير من التفكير حتى يتم استيعابها فقد حدثت أمام عيوننا من خلال تدمير الأبراج التي ظهر بعض منها في الفيلم الدعائي العظيم.
تبدو «حماس» عبر هذه الفيديوهات ترجو نتنياهو أن ينجز صفقة جزئية معها مقابل إصراره على صفقة كاملة وشاملة. قبل فترة، استخدم التجويع وسيلة للضغط عليها فظهر الأسير الإسرائيلي جائعاً منهكاً من قلة الطعام ما ارتد عكسياً على غزة وعلى أهلها. «حماس» لم تعانِ نتيجة هذا التخبط الإعلامي ونتيجة توسلات «حماس» لنتنياهو بأن يقبل الصفقة كما يخاطبه جنوده الأسرى لدى «حماس». ثم في الفيديو الجديد، يظهر الأسير وقد تم إطعامه بشكل جيد حتى أنه يذكر ما دخل لغزة من طعام ويقول، إنه غير كافٍ ويقضم فاكهة في نهاية الفيديو. وفي كل الحالات فإن الأسرى (وهنا يتحدثون بلسان «حماس») يتوسلون لنتنياهو أن يعقد الصفقة.
«حماس» لو قامت بعرض كل الأسرى في فيديوهات مختلفة وأوضاع متباينة فإنها لن تؤثر في القرار الإسرائيلي المدعوم أميركيا. الحل الوحيد أن تعلن عن وقف الحرب وتسلم مقاليد الأمر لمنظمة التحرير بشراكة عربية. لا أحد يستطيع أن يتحمل ما يجري الآن وحده.
واضح أن «حماس» لم تستوعب الرسالة الكونية التي تقول، إن الحل الوحيد هو أن تخرج هي من المشهد بشكل كامل. تصر انه يمكن إرجاع عقارب الساعة للوراء والعيش في مساء السادس من أكتوبر. لم تفهم أن حتى الدول التي ستعترف بالدولة الفلسطينية تشترط ألا يكون لـ»حماس» مكان أو مشاركة في سياسة تلك الدولة. للأسف لم تعرف أن الزمن لا يعود للوراء وأن الأخطاء يجب أن يدفع المرء ثمنها، وأن للشعب الفلسطيني دينا وحسابا في رقبة «حماس». مرة أخرى، تريدون أن نسب على إسرائيل ونتنياهو، افتحوا لسان العرب ولنختار أكثر الأوصاف قباحة وأشدها قسوة، لكن الجريمة هي إن لم نكن نعرف أن العدو بهذه القسوة والوحشية والدموية، وهذه جريمة أكبر لأن «حماس» جازفت بالشعب بلا حسابات.