في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، أعلنت الولايات المتحدة عدم إصدار فيزا ومنع الوفد الفلسطيني والرئيس محمود عباس من الوصول إلى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر ٢٠٢٥، لتعيد إلى الواجهة سؤالاً مركزياً حول شرعية النظام الدولي، وحدود النفوذ الأميركي على المنابر الأممية. هذه الواقعة، وإن بدت مجرد إجراء إداري يتعلق بمنح تأشيرة أو رفضها، تحمل في جوهرها أبعاداً سياسية ودبلوماسية عميقة، وتكشف استمرار النهج الأميركي في الضغط على القيادة الفلسطينية لاقصاء صوتها في المحافل الدولية.
القرار يجسد استمرار الدبلوماسية القسرية الأميركية، الولايات المتحدة، بصفتها الدولة المضيفة لمقر الأمم المتحدة في نيويورك، ملزمة بموجب "اتفاق مقر الأمم المتحدة لعام 1947" بتسهيل وصول ممثلي الدول الأعضاء، وليس منعهم من الدخول. هذا القرار يتناقض مع التزامات واشنطن القانونية، ويشكّل إخلالاً صريحاً بميثاق الأمم المتحدة.
لكن الأهم أن هذا المنع لا يُقرأ بمعزل عن سياق طويل من السياسات الأميركية تجاه الفلسطينيين، حيث جرى استخدام الفيزا كسلاح سياسي لإضعاف الصوت الفلسطيني، تماماً كما حدث عام 1988 حين مُنع الرئيس الراحل ياسر عرفات من دخول نيويورك، رفضت إدارة ريغان منح الرئيس ياسر عرفات تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، واعتبرته "شخصاً غير مرغوب فيه – persona non grata"، بحجة "دعم الإرهاب" وفق تعبير وزير الخارجية الأميركي حينها جورج شولتز.
حدث ذلك رغم أن عرفات أعلن في الشهر نفسه، من الجزائر، خطوات جوهرية في منظمة التحرير الفلسطينية نحو التغيير السياسي، ما اضطر الجمعية العامة إلى الانتقال بشكل استثنائي إلى جنيف لضمان مشاركته. تكرار المشهد مع الرئيس عباس وهو صاحب مشروع السلام ومهندس اتفاقية أوسلو، اليوم يثبت أن الدبلوماسية القسرية أصبحت أداة ثابتة في صندوق السياسة الأميركية تجاه الفلسطينيين. والسؤال اليوم فيما إذا سيتم نقل أعمال الجمعية العامة، وهذا خيار مكلف جدا ماديا ومعنويا ام ان المملكة العربية السعودية لديها ما يكفي من أدوات لإقناع إدارة ترامب بالعدول عن قرارها وإدخال الرئيس عباس مع مجموعة من المقربين دون الحاجة لاستقبال كل الوفد الفلسطيني؟
منع الرئيس عباس من الوصول إلى منصة الأمم المتحدة يعكس رغبة واشنطن في استهدافه شخصياً ومحاولة لنزع الشرعية الرمزية وتقييد أي خطاب فلسطيني قد يتحدى الرواية الإسرائيلية. يأتي هذا في لحظة سياسية حساسة تشهد فيها المنطقة تصاعد الضغوط الأمنية والإنسانية، خصوصاً في ظل حرب الإبادة المستمرة على غزة، وما تثيره من أسئلة حول القانون الدولي والعدالة الإنسانية. لكن التاريخ أثبت أن مثل هذه الخطوات قد تأتي بنتائج عكسية، حيث تتحول أدوات الإقصاء إلى محفزات لتجديد الشرعية الفلسطينية على أساس دعم الشعوب، لا قرارات الدول الكبرى.
من الزاوية الفلسطينية، يعكس هذا القرار الطابع القسري للسياسة الأميركية وأن واشنطن ليست وسيطاً نزيهاً، بل طرف منحاز بشكل صارخ. هذه السردية تجد صدى لدى العديد من الشعوب والدول، التي ترى في التجربة الفلسطينية مثالاً على ازدواجية المعايير الغربية.
يعيد هذا القرار فتح النقاش حول هيمنة الولايات المتحدة على المؤسسات الأممية والدفع نحو تعددية قطبية حقيقية. فإضعاف استقلالية الأمم المتحدة من خلال أفعال كهذه يفتح الباب أمام إعادة التفكير في اهمية المنظمة الأممية ودورها.
منع الرئيس محمود عباس من الوصول إلى الجمعية العامة ليس حدثاً عابراً، بل هو حلقة جديدة في سلسلة من السياسات الأميركية التي تدعم المشروع الصهيوني وتغطي على الاحتلال وجرائمه مما يتناقض مع مبادئ الشرعية الدولية. لكنه في الوقت نفسه يعكس التحدي الأكبر: أن القضية الفلسطينية لا يمكن إسكاتها أو تهميشها، وأن محاولات الإقصاء قد تتحول إلى فرص لإعادة تسليط الضوء على الظلم التاريخي، وتعزيز الدعوات العالمية لإصلاح النظام الدولي.
الشرعية لا تُصنع بقرارات الفيزا، بل بصلابة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها. التاريخ يعيد نفسه، وما تغيّر هو حجم الوعي بأن القوة لا تمنح الشرعية، والشعوب لا تُختزل بمواقف دبلوماسية قسرية. في النهاية، الشرعية الحقيقية تُستمد من الشعوب وصمودها، لا من فيزا أو ختم دخول تمنحه الولايات المتحدة أو تمنعه.