تصريحات أقرب إلى الأوهام وأحلام اليقظة وانعدام التوازن الأخلاقي وفقدان الذات التي يعلنها نتنياهو تحت تأثير ووهم القوة والحرب على أصغر منطقة في العالم، غزة، بسكانها المليونين والنصف والمنزوعي السلاح ومساحتها التي لا تزيد عن 360 كيلومترا مربعا فاقدا البصيرة السياسية بقتل أكثر من سبعين الفا، منهم ما يقارب العشرين الف طفل، ومثلهم من النساء والمسنين وتدمير كل مقومات الحياة من منازل ومستشفيات ومدارس وجامعات وبنية تحتية. على هذا الدمار يستحضر نتنياهو حلم إسرائيل الكبرى، والمفارقة السياسة أن تكون إسرائيل الكبرى على إبادة غزة، بعبارة أخرى لا وجود لهذه الأوهام إلا بتدمير غزة وتهجير سكانها، وهو لن يتحقق مع صمود وتجذر سكانها على أرضهم. والوهم الثاني محاولة ضم الضفة الغربية والدفع بسكانها نحو النزوح والتهديد بالقضاء على السلطة، هذا التفكير أقرب إلى الوهم بل هو الوهم ذاته، وهو كيف يمكن التعامل مع اكثر من ثلاثة ملايين نسمه في الضفة الغربية إضافة إلى مليونين ونصف في غزة ليقارب عدد السكان سكان إسرائيل ذاتها.
هذا هو التحدي الأكبر الذي بقوته وصموده يجعل من تصريحات نتنياهو أقرب لأحلام الطفولة أو السن المتأخر، وكأنه يعيش في عالم خالٍ من السكان وفاقدا لبصيرته تحت وهم القوة المطلقة التي تمارسها إسرائيل. تحقيق إسرائيل الكبرى يحتاج أولا إبادة شاملهة لهذا العدد، او تهجيرهم، أو تخيل أن الأرض قد أبتلعتهم وكأنهم لم يكونوا موجودين. والوهم الآخر التعامل مع أراضي الدول العربية في مصر والأردن ولبنان والعراق والسعودية وكأنها بلا سكان ولا دول، متجاهلا قوة هذه الدول ومكانتها الإقليمية والدولية وقدرتها وقوتها على إحباط هذا التفكير العقيم. والوهم الآخر انه لا يستند على قوة وصدقية الععقيدة فهي مجرد وعود ومعتقدات لا أساس لها من الوجود وأيدولوجية مبنية على الهيمنة والعنصرية ووهم التحالف الدولي المدعوم اليوم بقوة الولايات المتحدة واحتضانها إسرائيل وحمايتها، حتى الحرب على غزة ما كان بمقدور إسرائيل ان تستمر لولا هذا الدعم، وهذا التحالف ليس ثابتا في زمن تحولات القوة والتحولات في موازين وبنية النظام الدولي. فتاريخيا ما كان يمكن قيام إسرائيل لولا الدعم المطلق لبريطانيا ووعد بلفور الذي وعد بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وليس على قوة الحركة الصهيونية ومعتقداتها الدينية، فالمنطقة كلها خضعت لسيطرة أوروبا التي تحكمت في النظام الدولي حتى نهاية الحرب الثانية، ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني الذي عمل اولا على عدم قيام فلسطين الدولة، وفتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية وتشجيع المليشيات الصهيونية العسكرية للسيطرة على الأرض وتهجير السكان، إلى عرض القضية على الأمم المتحده وانتزاع قرار التقسيم الذي أنشأ إسرائيل لتنتقل بعدها الحماية والرعاية للولايات المتحدة لتحمي إسرائيل وتعمل على تقويتها وتوسعها إلى الحرب على غزة بكل تداعياتها والعمل على تهجير أكثر من مليونين.
كل هذه التطورات تؤكد لنا أنه لولا الدعم البريطاني أولا والولايات المتحدة ما تحقق حلم وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي هذا السياق جاءت تصريحات نتنياهو بإسرائيل الكبرى وأنه يقوم بمهمة تاريخية وروحية لتحقيق حلم أجيال متعاقبة من الشعب اليهودي. وهذا التصريح يمثل انتهاكا صارخا للقانون الدولي والشرعية الدولية. وكيف لدولة عضو في الأمم المتحده تطالب بحدود أوسع من حدودها، ومن المفارقات السياسية أن إسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي لم تحدد حدودها في دستورها، وهو دستور غير مكتوب. وهذا يفسر لنا رفض إسرائيل المطلق لقيام الدولة الفلسطينية لأنها نقيض لوهم وحلم إسرائيل الكبرى، بل هي بداية النهاية لإسرائيل ذاتها. وهذا المصطلح أثير بعد حرب 1967 واحتلالها لسيناء والجولان وكل الأراضي الفلسطينية. وللتأكيد على وهم هذا المعتقد استعادة سيناء بعد معاهدة السلام 1979. إلا أنها ضمت الجولان بالقوة واليوم تسعى مستغلة حرب غزة والدعم المطلق لإدارة ترامب لضم الضفة الغربية واستيطانها وضم كل القدس. والمصطلح موجود في العقيدة السياسية الدينية، وكلما يحين الوقت تقوم باستدعائه لأغراض سياسية داخلية.
والمفارقة الأكثر غرابة تصريحات الرئيس ترامب ان إسرائيل صغيره ولطالما فكرت في كيفية توسيعها. نتنياهو المتهم بقضايا داخلية ومطلوب للجنائية الدولية يريد ان يقول انه الأمين على تحقيق الوعود التوراتية ودولة ما بين النيل والفرات وكيف يمكن الحكم عليه. وكما يقول المؤرخ اليهودي إيلان بابيه في كتابه التطهير العرقي في فلسطين: إثارة الرعب والفزع بين الجميع والحصار المشدد وقصف القرى والتجمعات السكانيه وحرق وهدم المنازل والمدارس والمستشفيات وزرع الغام وسط الأنقاض لمنع السكان من العودة مجددا. وهي ما تقوم به في غزة والضفة الغربية. وتأكيدا لهذه السياسة كتب بن غوريون في مقدمة كتاب تاريخ الهاجاناه: ليس في بلادنا مكان إلا لليهود، إننا سنقول للعرب ابتعدوا فإذا لم يبتعدوا وقاوموا سنبعدهم بالقوة. هذا الفكر نتاج القوة والدعم المطلق من الولايات المتحدة لتحقيق أهداف سياسية بالسيطرة على المنطقة. فكر يقوم على التفوق العنصري والتطهير العرقي. ويبقى هذا الحلم وهماً ويصعب تنفيذه لا جغرافياً ولا سكانياً. ولا يمكن استئصال خمسة عشر مليون فلسطيني متجذرين في أرضهم وأصحاب حق لا يمكن إسقاطه بالقوة.