في هذا الصراع الدائر حاليا بكل جنون ودموية، ثمة أطراف جرى تضخيمها أو ضخمت نفسها، ولعبت أدوارا أكبر من حجمها بكثير.
لنبدأ بـ»حماس»؛ بنت «حماس» دعاية إعلامية موجهة عبر شبكتها الإعلامية الضخمة، وفي مقدمتها «الجزيرة»، قامت على المبالغة في تصوير قدراتها العسكرية، وإيهام الجمهور بأن الحركة تمتلك شبكة أنفاق ضخمة ستحميها من بطش الاحتلال، ولديها قدرات صاروخية قادرة على إلحاق أضرار جسيمة داخل إسرائيل، ولديها جيش مدرب قوامه خمسون ألف مقاتل مسلح، بتشكيلات نظامية متكاملة (ألوية، وفرق، ووحدات، وكتائب برية وجوية وبحرية، وضفادع بشرية، واستخبارات، ومصانع صواريخ وعتاد.. إلخ)، لدرجة أن الحركة استشعرت بقوتها، واعتقدت أنها قادرة على تدمير إسرائيل.
دعائيا وأيديولوجيا: تم طرح نموذجها في المقاومة بوصفه النموذج الوحيد الصحيح الذي يجب أن يُعتمد، وما دونه مضيعة للوقت، ومدعاة للسخرية.. لم يقتصر التضخيم على الجانب العسكري؛ الأهم منه تضخيمها سياسيا، لتصبح ممثلة عن الشعب الفلسطيني، وتفاوض باسمه، وتقرر مصيره.
سواء كانت هذه الدعاية بهدف تسمين الأضحية تمهيدا لذبحها.. أو لخلق مبررات وذرائع لإسرائيل لتشن عدوانها، ولتُقْدم على ما لم تجرؤ على الإقدام عليه طوال العقود السبعة الماضية.. أو لتقديم سردية الحرب بدلا من سردية الإبادة، أي بنزع صفة حرب الإبادة والتطهير العرقي عن جرائم إسرائيل والتركيز على أنها تقتل مدنيين لصالح سردية المقاومة وقدراتها وبطولاتها وانتصاراتها، بدليل امتلاكها قوات عسكرية تدمر الدبابات وتقصف الصواريخ.. المهم أن «حماس» نفسها توهمت بقوتها وصارت تتصرف على هذا الأساس، تريد أن تتجاوز منظمة التحرير وتلغي صفتها التمثيلية، وأن تتفاوض بنفسها مع أميركا، وأن تظل لاعبا أساسيا في المعادلة، وحاكمة لقطاع غزة حتى لو كان ذلك على حساب غزة وشعبها وقضية فلسطين كلها.
بصرف النظر عن موقفنا من «حماس»، أحببناها وأيدناها أو عارضناها.. يجب أن ندرك بأنها في نهاية المطاف عبارة عن ميليشيا عسكرية بقدرات أقل من محدودة مقارنة بقوة إسرائيل، بالنسبة للعالم وأقصد الحكومات والدول الفاعلة والمؤثرة فهي لا تعترف بها، وتصنفها كحركة إرهابية. على المستوى الشعبي تظل حزباً دينياً أيديولوجياً لا يمكنه بحكم تركيبته وعقيدته الحزبية أن يحتوي ويستوعب كافة الشرائح والطوائف والطبقات الاجتماعية والتوجهات الفكرية، وإذا حظيت الحركة بتعاطف أو تأييد شعبي ما، فليس لأفكارها وتوجهاتها بل لأنها تقاوم الاحتلال، وهذا هو المعيار الوحيد، فبدون ممارستها للمقاومة لا مكانة لها في عقل وضمير الجماهير.
الأهم من كل ما سبق، في ظل النظام الدولي القائم، ومع التغييرات الجوهرية الآخذة بالتفاعل، وإعادة تشكيل المنطقة على أسس مختلفة.. «حماس» مجرد تشكيل عسكري مشاغب ومعطل للمشاريع الكبرى، تشكيل سياسي يعود لحقبة ماضية وانتهت، ولا يصلح للتكيف مع المعطيات الجديدة، ولا مع العالم الجديد، ولأن الحركة تسيطر على بقعة جغرافية بالغة الأهمية في النظام الجديد؛ نظام الممرات المائية والموانئ والطرق التجارية والمشاريع والاستثمارات العملاقة وتقاطع المصالح والتجارة العالمية فقد تقرر القضاء عليها، أي إزالة هذا العائق.. وهذا ما تقوم به إسرائيل وأميركا والدول الغربية، وما وافقت عليه دول المنطقة وسائر دول العالم، بما فيها تلك التي تؤيد الحق الفلسطيني وتعتبر نفسها صديقة للفلسطينيين.
كان على «حماس» أن تدرك طبيعة الدولة العبرية، وطبيعة دورها الوظيفي، وأنها ركن أساسي في النظام الدولي، لا يمكنه أن يفرط بها، أو يسمح بأي تغيير في المعادلة القائمة، فحتى سيطرتها على قطاع غزة كانت حينها جزءا من ترتيبات إستراتيجية بعيدة المدى تدور في العقل الإسرائيلي والأميركي.. وأي تغيير في المشهد لا يمكن أن يمر دون موافقة ورضا الدول الكبرى.. وبالتالي أي تجاوز للخطوط الحمراء التي وضعها النظام الدولي سيُجابه بكل قوة وعنف. هذا ما تدركه دول المنطقة، ولم تدركه «حماس»، أو أنَّ دولا فاعلة في الإقليم أرادت استخدامها كجسر ومخلب لأغراضها الخاصة.
كان على «حماس» قراءة المشهد بعناية، هي أخطأت بدايةً في تقديرها للموقف حين شنت هجماتها في 7 أكتوبر، مدفوعة بوهم القوة، دون مراعاة قوة العدو وقدراته وطبيعة ردة فعله، ومراهنةً على حسابات معينة، ضمن تفكير يُسقط الرغبات على الواقع، ويتوقّع المعجزات الإلهية، كأنَّ هجماتها ستفجر حرباً شاملة على إسرائيل، سيتجنّد فيها كافة الفلسطينيين أينما كانوا والعرب والمسلمون، كل ذلك بالمنطق الغيبي.
وبعد تأكد فشل الحسابات، ورؤيتها لحجم وشراسة الرد الإسرائيلي، ونيته تدمير القطاع واحتلاله وإبادة سكانه، ومع تكشف الخلل في موازين القوى، وسقوط كل الرهانات؛ لم تتخذ الحركة أي خطوات سريعة باللجوء إلى منفذ طوارئ يجنّب شعبنا الكارثة. وعوضا عن بحثها عن حلول وبدائل، وأن تفكر بشكل واقعي، وتعيد تقييم موقفها، حتى لو تراجعت خطوة للوراء، وأن تضع نصب عينيها مصير القضية والمخاطر الكارثية التي يتعرض لها الشعب.. عوضا عن كل ذلك استمرت في مغامرتها، حتى بعد أن اتضح لها فشل رهاناتها على حلفائها، وبعد انكشاف ضعف الجبهة الداخلية.
لأننا نُحسن الظن بقوى المقاومة نقول، إنها أخطأت في حساباتها وتهورت.. لكن خطأها الأكبر أنها رهنت نفسها لصالح محاور إقليمية لا يهمها مصلحة القضية الفلسطينية، ولصالح حسابات وأجندات الإخوان المسلمين، والتي أيضا لا يهمها مصلحة الشعب الفلسطيني، وتعمل وفق أجندات مغتربة عن واقعنا ومنفصلة عن قضيتنا الوطنية.
كل هذا من الماضي، إدراكه ضروري لأخذ العبر، المهم الآن وقف الكارثة، لذا نتمنى على «حماس» أن تتوقف عن التفكير والتصرف بمنهجية تعني حرفيا انتحارها، ونحر سكان غزة معها، وإنهاء القضية الفلسطينية، فهل تتدارك خطورة الموقف قبل فوات الأوان؟
بالمثل، مع اختلاف بعض السياقات، وطبيعة الأهداف الإسرائيلية، جرى تضخيم «حزب الله»، فعليا وليس فقط إعلاميا، والحزب أيضا استشعر «وهم القوة»، وخاض حربا لمدة سنة ضمن قواعد اشتباك معينة، ولما حانت اللحظة، وصار ضروريا تحييد الحزب، تم ذلك خلال شهر واحد، بضربات مكثفة واغتيال قادته وتدمير قدراته العسكرية، علما أنه أقوى من «حماس» عسكريا بعشرة أضعاف، ولديه حاضنة شعبية حقيقية وقوية، وجغرافية وتحالفات وإمكانات لم تتوفر لـ»حماس».. مع ذلك تم تحييده.. تمهيدا للترتيبات الجديدة المعدة للمنطقة.
في المقال القادم، سنناقش كيف ضخمت الأطراف الأخرى نفسها، بتورم ارتد عليها، سنتحدث عن إيران، وقطر، وإسرائيل، والإدارة الأميركية.
