قبل غروب شمس السادس عشر من أيلول عام 1982، وعلى امتداد ثلاثة أيام طويلة جدًا، شهد العالم أجمع مذبحة مروعة تعرض لها أبناء شعبنا في مخيمي صبرا وشاتيلا. كانت مقدماتها مؤلمة، وقائعها أكثر إيلامًا، أما أحداثها الدامية فما زالت منقوشة على جدار القلب المثخن بالوجع، تسكن ثنايا الضلوع، محفورة في ملفات الذاكرة التي لم تعد تتسع للألم، تستحضر الدمع المتحجر في المُقل، كما تستحضر لحظات الغضب المتطاير كاللهب. في ذلك اليوم، قبل 43 عامًا، كانت دبابات العدو الإسرائيلي التي اقتحمت بيروت بعد حصار دام 88 يومًا تصب حمم قذائف مدافعها وصواريخها على بيوت المخيمين المتهالكة. القناصة المتمركزون على أسطح العمارات العالية في دوار السفارة الكويتية ومباني المدينة الرياضية، وأزيز الرصاص من كواتم الصوت، في ساعات المجزرة الأولى، يحصد الرؤوس دون ضجيج ، كان القتلة المجرمون يستخدمون السواطير والخناجر لتبقر البطون تحت وابل من قذائف الإنارة التي غطى بها جيش الاحتلال سماء المخيمين، لينير طريق القتلة. زجاجات الخمر كانت متناثرة على طاولات القتلة قرب ملجأ آل مقداد في منطقة الحرش، والجنازير والحبال التي التفت على عجل حول مجموعات أُطلقت على رؤوسهم الرصاصات بلا رحمة. جثث الشهداء تختلط مع إطارات السيارات على مدخل المخيم قرب حاجز اجنادين، وصرخات الأطفال وأنين الجرحى على حافة الموت قبل أن تحلق أرواحهم نحو عنان السماء. رؤوس الأطفال وأطرافهم المقطوعة ملقاة في برك من الدم خلف دكان الدوخي، والفتيات بعمر الورود مقتولات بوحشية وسادية العصر، وأكوام الشهداء تتكوم في خنادق تمتد على مئات الأمتار بطول الألم وعمق الحزن، وتُغطيها تراب الجرافات D9 التي أستدعيت على عجل لطمس معالم الجريمة في مقبرة جماعية اتسعت لآلاف الضحايا. بين هذا وذاك، كان هناك شباب لم تتجاوز أعمارهم العشرينات، وأعدادهم بالعشرات، استبسلوا وتفانوا حتى نفذ الرصاص من بنادقهم. قاتلوا بشجاعة حتى لا تكون المجزرة أفظع وأوسع، فأنقذوا عشرات الآلاف، ونقلوهم من زقاق إلى زقاق نحو مستشفى غزة، ومن ثم إلى حديقة الصنايع وسط مدينة بيروت. كلها مشاهد ما تزال حاضرة تسكن أعماق الذاكرة وسويداء القلب، لن تمسحها السنين الطوال. كيف يمكن للمرء أن ينسى لحظات موته وحياته في آن، خاصة وهو يعيش منذ عامين لحظات مماثلة في أتون حرب الإبادة الجماعية التي نتعرض لها في قطاع غزة منذ عامين؟ إنها ذات المشاهد وذات الضحايا، كما أن المجرمين هم ذاتهم. اليوم تمر الذكرى الـ 43 لمجزرة صبرا وشاتيلا، التي لا يمكن نسيانها بكل فصولها ولحظاتها المرعبة في أزقتها. تعرفت هناك على الموت فغدا صديقًا أتعايش معه إلى جانب أبناء شعبنا هنا في غزة هذه الأيام. هناك كنت شابًا فتياً، وهناك بين الأزقة المتداخلة رحل أحبة كثيرون وأصدقاء شجعان ما زلت أذكرهم ولم أنساهم، كما لن أنسى تلك اللحظات المحفورة في ذاكرتي. كانت ثلاث أيام قاسية وصعبة ومرة، فيها شربت الأرض الدماء حتى ارتوت، فقد كان الماء مختلطًا بالدم، كما الخبر مغموسًا بالدماء.
مجزرة أبراج غزة..كلمة السر كوشنير
11 سبتمبر 2025