تراجيديا النزوح من مدينة غزة ...

image_processing20220526-1668787-pp1j34.jpg
حجم الخط

بقلم د هاني العقاد

 

يبدو ان قادة الاحتلال ندموا على ترك غزة بلا تدمير وسحق ومحو عن الوجود كما فعلوا في خانيونس ورفح، فعادوا لها من جديد لأنهم لم يشبعوا رغبتهم في الانتقام ولم يهنأ لهم بال، والناس قد عادوا ليعمروا ما هدم ليعيشوا بين الركام وعلى الأنقاض فعادت طائراتهم ودباباتهم وصواريخهم تقصف المدينة من جديد في حرب ملعونة لا تستثني بشرا ولا شجرا ولا حجرا. مليون إنسان وأكثر يواجهون الان حرب إبادة حقيقية في مدينة غزة، منهم من يسابق الزمن ليخرج من المدينة لان له مكانا آخر في الجنوب الذي طلب الاحتلال النزوح اليه, ومنهم لا يعرف اين يذهب او اين ينقل أسرته، فالبقاء في مدينة غزة أمر يعني مواجهة الموت، والنجاة مع البقاء هناك أصبحت نسبة تتدنى كلما زاد الاحتلال في جبروته وجنونه، فهو يصعد من هجماته على البيوت مع كل دقيقة، دخان يتصاعد من مناطق عدة بالمدينة ونار تصل عنان السماء مع سقوط الصواريخ، أطنان من الركام تتطاير في الهواء ويسقط بعضها على رؤوس المتواجدين في الخيام بجوار البنايات والأبراج التي باتت هدفا لطائرات الاحتلال المجنون, قصف مجنون بلا اكتراث لاي روح بالمكان. الاحتلال ينذر المواطنين بإخلاء الابراج والبنايات العالية, فقط يعطيهم بضع دقائق.  الوقت لا يقاس هنا بالدقيقة بل بالثانية والجميع يهرول لتجميع كل ما يستطيع جمعه, الأطفال يجمعون ألعابهم ومقتنياتهم, والام تجمع مستلزمات الحياة في الخيام من أدوات الطبخ والخبز, والاب يجمع حقائب الأوراق الرسمية والمستندات الخاصة بالعائلة. الجميع يهرول الى الشبابيك والشرفات يبدؤون برمي كل ما جمعوه على امل ان يختزلوا الوقت ويهرولوا الى الاسفل  لينقلوه بعيدا عن المبني الذي انذر الاحتلال بإخلائه لتدميره في غضون دقائق لعلهم يستطيعوا انقاذ شيء من متاعهم، فلا وقت لديهم لإنزال كل تلك الأشياء عبر السلالم وخاصة ان المصاعد معطلة لعدم وجود كهرباء لكنهم يعرفون انهم لا يستطيعون نقل كل امتعتهم وفراشهم فأمامهم الأشياء المهمة وما يترك هو الكثير وما يتم إنقاذه هو القليل ويتبقى بعد ذلك أهمية الابتعاد عن المبني .. فزع ورعب وصراخ في كل الانحاء, المشهد مرعب حقا مرعب في الخارج, الكل يهرول والأثاث يتساقط من اعلى , الملابس والفرشات تتطاير البعض يلقي الأبواب ليستخدمها بعد ذلك في الطبخ كحطب ان تمكن من نقلها والبعض يلقي الدواليب لذات الغرض, انها دقائق ما قبل الدمار وتحول المبني الي كومة ركام, دقائق لم يتخيلها أي انسان خارج المشهد، لكن من عاش التجربة يتصور كل هذا الرعب، انه صراع مع الوقت وامتزاج بين الخوف من الموت والخوف بان لا ينقذوا شيئا من بيتهم, الجسد يرتجف والروح ترفض مغادرة المكان, انه جزء من الحرب الملعونة بتفاصيل مشهد من مليون مشهد مشابه لسكان غزة, تفاصيل مرعبة للحظات الإخلاء من مبني متعدد الطوابق يريد الاحتلال قصفه بالطائرات والصواريخ الأمريكية الصنع. 

في لحظة تمضي الدقائق المسموح فيها بالبقاء في المكان حسب ما يحدده ضابط الاحتلال. الكل يهرول بعيدا عن المكان الى الشوارع البعيدة عن المكان والجميع يبدأ بعد الثواني لسماع صوت الانفجارات المرعبة ليروا بنايتهم تهوي وكأنها طوابق من البسكويت في يد طفل غاضب, عيونهم الى السماء تراقب طائرات الحرب وهي ترمي بحممها على مبانيهم, في لحظة يمتزج الغبار والدخان كأنه دخان بركان غبي فقد عقله، ما هي الا بضع دقائق ليعود بعض الناس ليروا ما حل ببنايتهم فلم تعد سوى كومة من الركام، تتناثر بين طبقاتها الكثير من مقتنياتهم التي بقيت ,قليلون يستطيعون التعرف على ممتلكاتهم لان الركام قضى عليها. انها لحظات كما القيامة لا يتصورها أحد. "قبل قليل كان لنا هنا بيت وكنا نجلس ننتظر وجبة الغداء على مائدة الطعام الا ان الاحتلال حرمنا من الطعام وحرمنا من كل شيء" هذا ما تحدث به نفس كل من خرج من المبني. هنا تبدأ رحلة عذاب جديدة انها رحلة البحث عن خيمة للإقامة فيها وقضاء الليل او البحث عن وسيلة نقل لتنقلهم الي مكان اخر سواء الي الجنوب او الى شاطئ بحر غزة حيث ما يزال الالاف من الناس يصرون على البقاء هناك لأنهم يعرفون انهم ان غادروا المدينة قد لا يعودوا لها مرة اخرى.  

 في مشهد اخر يودع اهل غزة بيوتهم حاراتهم وشوارعهم ويلتقطوا الصور في كل مكان، يلتقطوا الصور للبيوت والشوارع والحارات لأنهم لا يعتقدوا انها ستبقى في ظل هذه الحرب الهمجية التي تستهدف مدينتهم ببنيتها المدنية، يودعوا بيوتهم وأبوابهم واسوارها، اركان غرفهم وما تبقي من اثاثهم، يودعوا حدائقهم واشجارها وورودها، منهم من يقبل الارض ,ومنهم من يحتضن الحوائط ,ومنهم من يجلب معه أبواب البيت لتبقي ذكرى ان لم يستخدمها كخشب للطبخ. مشهد تراجيدي  لم تصوره السينما ولم يأتي على بال احد ولم يكتب في التاريخ الا في غزة ,مشهد يعكس حالة فقدان الامل بالعودة للبيت ويكون كما هو لم يدمره الاحتلال , فجيش الاحتلال قادم بدباباته وبلدوزراته الي المدينة لهدمها وتسوية مبانيها بالأرض وتجريف شوارعها وحاراتها وتدمير كل شيء فيها, جيش الاحتلال قادم الى المدينة بكل ما يملك من أدوات حربية ليحارب البني التحتية والمباني والعمارات والأسواق والمدارس والمستشفيات والشوارع والطرقات يفجرها بالروبوتات المفخخة وصواريخ الطائرات , جيش قادم ليقتل كل من تبقي في المدينة فلا يعنيه الا القتل ولا يريد ان يري انسانا في المدينة حتى لو كان عاجزاً او كبير السن لم تسعفه الاقدار والظروف ليرحل عن المدينة كما رحل الباقون. مشهد اخر ينقلنا لنزوح الناس في الشوارع بالآلاف تاركين بيوتهم وما يملكون في اقسى مشهد يمكن ان يتخيله الانسان ويمكن ان يأتي نتيجة لاي حرب بالعالم، أطفال ونساء يحملون بعض الحاجيات يسيرون بخطى مثقلة تتقدم في كل خطوة شبراً واحداً ليس لمجرد التعب بل لتملك الحزن قلب كل من يسير بالشارع تاركا وراءه روحه التي لا تريد ان تنفصل عن جسده، تاركا روحا ترفض النزوح ويسير بجسد يرتجف حزناً وألماً وخوفاً من اهوال هذه الحرب الهمجية. 

مشهد اخر لكن هذه المرة ليس على طول الطريق الساحلي بين غزة والمنطقة الجنوبية، أي شارع الرشيد الذي تتزاحم فيه سيارات النازحين على امتداد البصر لكنه داخل البحر في المياه الزرقاء، المياه التي يستحي الموج من تعكير صفوها ,قارب صغير بمجدافين ينقل مواطن من غزة امتعته على متنه هاربا من الموت  , لم يجد وسيلة تنقله الى الجنوب نازحا سوى هذا القارب الصغير ,الملفت في الصورة ان أبناءه وزوجته يحملوا في جلوسهم امتعتهم التي استطاعوا ان يحملوها بالقارب وخزان ماء يتوسط القارب , المسافة بحرا من غزة الى خانيونس المواصي تقارب 30 كيلو مترا، بالطبع القارب ليس بخاريا وصاحب القارب هو الرجل الوحيد بالقارب أي هو من يجدف ويقود القارب، لاحظوا معي كم من الوقت يحتاج هذا الرجل ليصل بالقارب الى منطقة المواصي في خانيونس , يقضي الليل في البحر علي بعد قليل من الشاطئ بين الأمواج المتلاطمة ورصاص زوارق الاحتلال الحربية يتطاير فوق رؤوس  افراد اسرته، هنا يتساوى الموت بالحياة. 

كل نزوح هو موت وكل مغادرة للمنزل امر بشع لا يقبله المنطق ولا تقبله الطبيعة ولا يقبله مجنون، فكيف يقبله العالم وكيف يرى كل هذا الضياع ولا يحرك ساكنا، يترك إسرائيل تمحو مدينة بأكملها وتهدم ابراجها وتدمر شوارعها وكل شيء، تجبر السكان على الرحيل ويتوعد بالموت من يبقي، منهم من نزح عشر مرات ومنهم من نزح أكثر وفي كل مرة يتساوى الموت بالحياة. في النزوح نفقد من ارواحنا أرواحا ومن اجسادنا أجسااد ومن افراد اسرنا افرادا شهداء يرتقوا في طريق الهروب من الموت الى الموت، القلب والروح تبقي في المكان ترفض النزوح، الجسد يسير مرتجفا، العقل يكاد لا يتوقف على استعراض صور البيت وتخيل ما قد يحدث إذا ما تم قصفه، وفي الغالب يقصف ويصبح كومة ركام. انها حياة النزوح لمن لا يعرفها، حياة أقرب للموت وموت بلا موت، جوع وحرمان، قهر ولوعة، انها تراجيديا النزوح المرة وحكاية كل مواطن في غزة بتفاصيل مختلفة. فالعنوان واحد والتفاصيل مرعبة في كل مشهد.