حسن خضر
نشرت منابر إعلامية مختلفة صورة وصل وقعه شخص باسم فاروق، استلم قيمة الجزية من أرمني يدعى سركيس في مدينة الرقة، وقالت إنها الأولى لوصل داعشي باستلام الجزية من مسيحي. وفي هذا الخبر ما يعيدنا إلى ما تناولناه في مقالة الأسبوع الماضي عن المُتخيّل الثقافي.
وأوّل ما يتبادر إلى الذهن: هل الجزية مُتخيّل ثقافي؟ وإذا كانت كذلك هل تنتمي إلى المُتخيّل الثقافي الشعبي، أم العالِم (مُتخيّل الثقافة الرفيعة، الكلاسيكية، الفصحى)؟، وإذا افترضنا أن المُتخيّل الثقافي يحتاج إلى مُحفّز من نوع ما ليطفو على السطح، فما ومن الذي استدعى الجزية، وأسقط عاثر الحظ سركيس في براثن فاروق الخارج من كهف عميقة في التاريخ؟ أو تلافيف العقل الباطن الجمعي؟
بداية، ينبغي التعامل مع مفاهيم من نوع مُتخيّل الثقافة الشعبية بقدر كبير من التحفّظ. والسبب: أن عصر الطباعة، ومركزية التعليم، في زمن الدولة القومية الحديثة قضى على كل احتمال لاستقلاليتها، وفي أفضل الأحوال وحّدها إلى حد كبير، وجعل العالِمة مصدراً رئيساً من مصادرها. وإلى هذا نُضيف، في العقود الأخيرة، الفضائيات، والإنترنت، والهاتف المحمول، وكلها غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، وتمثل مصادر إضافية للثقافة الشعبية، وما يُحتمل من مُتخيلاتها. الخلاصة: أن الشعبي ليس شعبياً تماماً، ومُتخيّلاته ليست شعبية تماماً.
والأهم، وهذا ما حاول التدليل عليه إيريك هوبسباوم، أن طبقة الفلاّحين، الطبقة الاجتماعية التي أنجبت الثقافة الشعبية، وتوارثت تقاليدها، على مدار عشرة آلاف سنة خلت، دخلت في القرن العشرين طور الانقراض. هذه الظاهرة جلية في الغرب، وبقدر أقل في مناطق أخرى من العالم، ولكن نتيجتها، في نهاية المطاف، واحدة.
المقصود، أيضاً، أن الشعبي لم يعد شعبياً تماماً. وليس من قبيل المصادفة أنه يُستعاد بطريقة فلكلورية، ويُوظّف في صناعة الترفيه والسياحة، أو في خطابات النوستالجيا القومية، السياسية والثقافية على حد سواء.
وإذا افترضنا أن الديني في صلب المُتخيّل الثقافي (وهذا صحيح)، فينبغي الانتباه بشكل دائم إلى حقائق من نوع مصادر المُتخيّل، وهي مُتحركة ومُتبدلة. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالديني في المُتخيّل الثقافي الشعبي، فإن تجلياته وآليات عمله، ومُحفزاته، وطريقة استدعائه، وتداعياته، مختلفة نتيجة بعده عن المصدر الكلاسيكي الأصلي (الأمية، وصعوبة الانتقال من مكان إلى آخر، والصلة الواهية بالمدينة) أولاً، ونتيجة المفاوضات اليومية بين الديني والدنيوي، والتي يمتاز فيها الديني بالمرونة والقدرة على التأقلم، نتيجة التفاعل والعمل والإنتاج والسوق ثانياً، ونتيجة تعددية مصادرة، وإعادة توليفها، على مر القرون ثالثاً. (مريم بملامح زنجية في أفريقيا، وبقايا الديانات الكنعانية والمصرية القديمة في "عادات وتقاليد" بلاد الشام، مثلاً، وهي حيّة حتى يوم الناس هذا).
لذلك كان الديني في مُتخيّل الثقافة الشعبية معرّضاً لنقد دائم من جانب حملة وحرّاس الثقافة الكلاسيكية العالِمة، ومركز هؤلاء التقليدي المدينة، أو المركز الحضري (سواء في أوروبا القرون الوسطى، أو وهابية الجزيرة العربية على مدار القرنين الماضيين، أو جماعة الإخوان وألوان طيفها في القرن العشرين). وفي هذا نعثر على سر تحفظات الفقهاء على العوام، والعامّة، ووضعهم في درجة أدنى من الخاصة بالمعنى الأخلاقي، والإنساني، والديني، والاجتماعي بطبيعة الحال. ولم يندر في حالات كثيرة العمل على "تطهيرهم" من الضلال بالعنف، كما حدث من قبل، وكما يحدث الآن.
وعلى الرغم من حقيقة أن الفلاّحين كانوا وقوداً وجنوداً لحركات خلاصية، وألفية، في التجربة التاريخية للغرب (الحروب الصليبية، والحروب الدينية) إلا أن وجودهم في حركات مشابهة في التجربة التاريخية للعالم العربي يكتنفه الشك والغموض، فالانشقاقات والحروب الدينية، في التجربة التاريخية للعالم العربي ـ الإسلامي، كانت قبلية في الغالب، ولم تنجح في اختراق وتجييش التجمعات الزراعية الكبرى في وادي النيل، وبلاد الشام.
وبقدر ما أرى الأمر، يصعب التدليل على جدية وجود مُتخيّلات الثقافة العربية العالِمة (خارج حدود الحلال والحرام بالمعنى النفعي والضيّق للكلمة، وهي الحدود التي تولى حراستها فقهاء وقضاة محليون، كانوا يخدمون أكثر من قرية أو ناحية في وقت واحد، بينما تكفلت "العادات والتقاليد" السائدة بتسوية النزاعات، وآداب السلوك) في متخيّلات الثقافة الشعبية، قبل حلول الطباعة، ومركزية التعليم، والإعلام وتقنية تداول المعلومات، في النصف الثاني من القرن العشرين.
وإذا شئنا الاختزال، فلنقل إن فاروق الداعشي لم يكن جزءاً من المُتخيّل الثقافي الشعبي، بل يدل حضوره فيه على مدى نجاح مًتخيّل الثقافة العالِمة (الكلاسيكية) في انتهاك واختراق مُتخيّل الثقافة الشعبية، واحتلال مكان ومكانة المتن فيه.
وهذا، في الواقع، تحوير طفيف لفرضية إيرنست غيلنر، الذي فسّر صعود ظاهرة الإسلام السياسي بنجاح الفقهاء في تعميم معارفهم التقليدية في أوساط مختلف الطبقات الاجتماعية، في ظل الدولة القومية الحديثة، وظهور الطباعة، ومركزية التعليم.
لم يكن ليخطر على بال أحد في الرقة السورية، أو أسيوط المصرية، أو المواصل العراقية، أن ثمة ما يستدعي عدم إلقاء السلام على الجار المسيحي، أو مشاركته أتراحه، وأفراحه. ليس المقصود رسم صورة رومانسية للماضي، ولا للثقافة الشعبية، ومُتخيّلاتها، بل المقصود أن فاروق كان جزءاً من مُتخيّل الثقافة الكلاسيكية العالِمة، التي كشّرت عن أنيابها. فلنتذكر أن موضوع السلام، والأفراح، والأتراح، تردد على شاشات التلفزيون، ومنابر إعلامية كثيرة، على مدار العقود القليلة الماضية، وأن فاروق كان في الانتظار، في يمناه الوصل، وفي يسراه السكين، وأن في ما أوصل سركيس إلى دفع الجزية ما يشبه وقائع موت مُعلن.