تركيا: بين واشنطن وموسكو

تنزيل (3).jpeg
حجم الخط

الكاتب: هاني عوكل

 

شهدت العلاقات التركية - الأميركية صعوداً وهبوطاً، وتأرجحت بين التحالف الوثيق والخصومة الحادة منذ انضمام الأولى إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو» عام 1952 وتحولها إلى شريك إستراتيجي للولايات المتحدة في مواجهة الاتحاد السوفياتي آنذاك.
تركيا، التي تنتمي جغرافياً إلى قارتَي آسيا وأوروبا، استثمرت علاقاتها الدولية وطورت من نفسها حتى تحجز لها مقعداً في النظام الدولي، كما كان الحال في فترة الاستعمار التقليدي، حينما كانت إمبراطورية عثمانية ممتدة بسطت نفوذها على أجزاء واسعة من العالم العربي قبل أكثر من قرن.
أسباب هذا الصعود والهبوط في العلاقة مع أقوى دولة في العالم تعود إلى رغبة تركية في تحقيق مصالح إستراتيجية تعود عليها بالمنفعة في عالم يشهد اضطرابات عميقة، وهي لا ترغب في خسارة دول كبرى مثل الصين وروسيا.
تحاول أنقرة مسك العصا من المنتصف، من حيث الاستفادة القصوى من بكين وموسكو في التجارة الدولية، وكذلك فتح الباب مع واشنطن لاستيراد الأسلحة الإستراتيجية التي تحقق الأفضلية للدولة التركية في بيئة إقليمية غير مستقرة سياسياً وأمنياً.
الانزياح التركي عن واشنطن جاء منتصف تموز العام 2016، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي كادت تطيح بالرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، الذي بدوره ألقى بالتهمة على الولايات المتحدة؛ لأنها حمت الداعية التركي فتح الله غولن وجماعته المتهمين بالانقلاب.
سبق ذلك واستتبعه فتور في العلاقة مع واشنطن؛ بسبب عدم رغبتها في انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي، خوفاً من تركيا البلد الإسلامي الذي يمكن أن يحدث تحولاً في السياسة الأوروبية على المدى البعيد، مع تنامي الإسلام في القارة العجوز.
كذلك فتح ملف شراء الأسلحة الأميركية الباب أمام جمود العلاقات مع تركيا باستبعادها من برنامج مقاتلات إف 35 وفرض عقوبات عليها، على خلفية شراء أنقرة منظومة الدفاع الروسية المتطورة إس 400، تبعه ملف سورية الذي شكل هو الآخر نقطة خلافية بين البلدين.
اللقاء الحديث، الذي جمع الرئيس الأميركي ترامب بنظيره التركي أردوغان في البيت الأبيض، رطّب الأجواء بين البلدين، وبدا أن هناك عودة أردوغانية إلى المظلة الأميركية بعد غياب تجاوز الستة أعوام، شهدت فيه أنقرة ظروفاً اقتصادية صعبة بفعل العقوبات الأميركية.
ترامب تغزل بنظيره التركي واعتبره «رجلاً قوياً يحظى باحترام واسع في تركيا وأوروبا والعالم»، وسبب هذا التغزل يعود إلى رغبة ترامبية في استمالة تركيا لشراء أسلحة وإقامة صفقات تجارية تصل إلى أكثر من 50 مليار دولار.
في المقابل، يدرك أردوغان أن ترامب رجل أعمال قبل أن يكون رئيساً، والبوابة الأبرز لإعادة بناء العلاقات مع واشنطن تأتي من مدخل المال، ولذلك ألمح قبل ذهابه إلى الأمم المتحدة عن نية بلاده إعادة إحياء برنامج إف 35.
أغلب الطائرات العسكرية التركية أميركية وكذلك الحال الطائرات التجارية، ولذلك أخذ أردوغان معه ملفات اقتصادية وتجارية كثيرة حتى يطرحها على ترامب، من بينها صفقة تحديث الأسطول الجوي التركي عبر شراء 40 طائرة من طراف «إف 16»، وصفقة لشراء 200 طائرة مدنية من شركة بوينغ الأميركية.
بالطبع هناك نقاط خلافية بين الرئيسَين تتصل بما يجري في قطاع غزة والنفط الروسي، إذ تجد تركيا أن عليها تحصين نفسها إقليمياً في مواجهة المخططات الإسرائيلية تحت مصطلح «إسرائيل الكبرى»، وفي ذات الوقت إيجاد حالة من التوازن في العلاقة بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى.
أنقرة وواشنطن تحتاجان إلى بعضهما البعض، فالأولى ترغب في تطوير قدراتها العسكرية وتعزيز حضورها الإقليمي خصوصاً في سورية، والثانية تبحث في الاستثمار الذي يحقق لها عوائد مادية، مع فائدة جلب تركيا إلى المربع الأميركي.
الرئيس التركي يدرك هذه المعادلة، ومن المحتمل أن يعيد إحياء العلاقات مع واشنطن ويخفف من وطأة العقوبات المفروضة على بلاده لتمكين نفسه سياسياً واقتصادياً على المستوى الداخلي، وفي نفس الوقت الاستفادة من النفط الروسي بأسعار تفضيلية وعدم غلق الباب في وجه التجارة البينية.
الخطاب التركي تبنى منذ سنوات قليلة سياسة تصفير المشكلات، الأمر الذي يترجم علاقة أنقرة «البراغماتية» مع موسكو وبكين وكذلك مع واشنطن، من أجل تحقيق مصالح تركيا الإستراتيجية وجعلها من أبرز اللاعبين الإقليميين والمرشحة لحجز مقعد في النظام الدولي.