إدارة أوباما تعيد تقييم سياستها

45
حجم الخط

هاني المصري

 أعلنت إدارة أوباما أنها ستعيد تقييم سياستها إزاء إسرائيل في ضوء التصريحات التي أدلى بها نتنياهو أثناء الحملة الانتخابية، إذ تخلى فيها عن التزامه بالدولة الفلسطينية الذي عبر عنه أثناء خطابه في جامعة «بار إيلان» العام 2009.  ولتبرير هذا الموقف قال المتحدث باسم البيت الأبيض بأن واشنطن تؤمن بضرورة قيام دولة فلسطينية، لأن في قيامها مصلحة أميركية وإسرائيلية، فضلًا عن المصلحة الفلسطينية طبعًا.
وحتى تعطي الإدارة الأميركية جدية لحديثها عن إعادة التقييم، لم يول أوباما اكتراثًا «لتراجع» نتنياهو بعد نجاحة في الانتخابات عن تخليه عن الموافقة على قيام دولة فلسطينية، وصرّح الناطق باسم الخارجية الأميركية بأن إدارته قد تمتنع عن التصويت إذا عرض مشروع قرار على مجلس الأمن يعترف بالدولة الفلسطينية، بل قد تعترف أميركا بالدولة الفلسطينية من دون انتظار نتيجة المفاوضات وفقًا للموقف الأميركي المعتمد منذ فترة طويلة.
هل تمضي الإدارة الأميركية في تهديدها، وما مغزى ذلك إن حصل، وما هي السيناريوهات المتوقعة؟
السيناريو الأول، أن تتراجع واشنطن عن إعادة التقييم والاكتفاء بفركة الإذن التي قام بها أوباما، مقابل تأكيد التزام نتنياهو بالدولة الفلسطينية، مع معرفتها ومعرفة الجميع بأن هذا الالتزام لا معنى له منذ البداية، لأن نتنياهو وضع شروطًا تعجيزيةً حتى يوافق على الدولة، تبدأ بضمان أمن إسرائيل، ولا تنتهي بالاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي.  وأضاف نتنياهو بعد تراجعه شروطًا جديدة مثل ضرورة تخلي أبو مازن عن شراكته مع «حماس»، لأنه عليه الاختيار بين إسرائيل وبين «حماس».  كما وضع شرطًا جديدًا يتعلق بأن إسرائيل لا بد أن تؤمّن نفسها أمنيًّا بشكل أكبر من السابق بعد التغييرات الكبيرة التي تشهدها المنطقة قبل الموافقة على قيام الدولة. وقال نتنياهو حتى قبل تراجعه إن قيام الدولة يجب أن لا يمنع حق إسرائيل في التدخل داخل أراضيها لحماية أمنها.
عندما وافق نتنياهو على الدولة كان ذلك من قبيل العلاقات العامة وإرضاء الإدارة الأميركية التي اكتفت بذلك الإعلان الشكلي، بالرغم مما كانت تقوم به حكومة نتنياهو من رفض للمبادرات وإفشال للمفاوضات، والمضي في العدوان والتمييز العنصري وخلق الحقائق الاحتلالية والقانونية وغيرها، التي تستكمل إقامة أمرا واقعا يجعل الحل الإسرائيلي - الذي لا يلبي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية - هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا.
هذا السيناريو يعززه أن أوباما يعطي الأولوية للاتفاق مع إيران الذي تعارضه إسرائيل والحزب الجمهوري ومناصرو إسرائيل بشدة، ولا يريد أن يفتح جبهة أخرى، خصوصًا في ظل اقتراب انتهاء فترته الرئاسية، فلو أنه فكر بذلك سيتعرض إلى ضغوط من حزبه ومن مرشحي حزبه للرئاسة، وتحديدًا هيلاري كلينتون التي تتخذ مواقف مؤيدة لإسرائيل، ولا تريد أن تخسر تأييد مناصريها في الانتخابات الرئاسية القادمة.
وفي هذا السيناريو تأخذ الإدارة بنصيحة دنيس روس الذي كتب وأعاد مجددًا آرائه الذميمة بأن الوقت ليس وقت مفاوضات ولا وقت حلول، وإنما يجب التركيز على استعادة الثقة وتوفير الشروط المناسبة لاستئناف المفاوضات، فهو صاحب مقولة «إن «عملية السلام» عملية من دون سلام، وأن الممكن إدارة النزاع وليس حله».
السيناريو الثاني، أن يمضي أوباما وينفذ تهديده، ويوافق على صدور قرار من مجلس الأمن يعترف بالدولة، وقد يتضمن جدولًا زمنيًا لقيامها، لأنه يدرك أن عدم القيام بذلك سيجعل الرئيس أبو مازن غير قادر على الاستمرار بالوضع الحالي، وأنه سيمضي مضطرًا نحو تفعيل العضوية الفلسطينية في المحكمة الجنائية، وتنفيذ قرارات المجلس المركزي بخصوص وقف التنسيق الأمني، وتحميل الاحتلال المسؤولية عن احتلاله، وإعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل، والمضي بالمصالحة والمقاومة الشعبية والمقاطعة؛ ما يعني أن الأمور في هذا السيناريو مرشحة إلى تدهور شامل، وإلى مجابهة فلسطينية - إسرائيلية شاملة ستكون لها تداعيات على كل المنطقة التي تشهد حروبًا وانقسامات وتصاعدًا لظواهر التطرّف.
إن صدور قرار من مجلس الأمن يعترف بالدولة الفلسطينية أو اعتراف أميركا بالدولة ينطوي عليه ثمن فلسطيني كبير، يتمثل بأخذ هذا القرار المعايير الأميركية والدولية، مثل تضمين أي مشروع قرار مبدأ «تبادل الأراضي»، واعتبار الأمن الإسرائيلي أولوية ومرجعية، والتخلي الفعلي عن القرارات الدولية بخصوص قضية اللاجئين، وقد تطلب الإدارة الأميركية تضمين القرار بندًا عن «يهودية» إسرائيل مثلما ورد في مشروع القرار الفرنسي، إضافة إلى إنه سيترافق على الأرجح مع طلب بأن يتوقف التحرك الفلسطيني في المحكمة الجنائية، وعن أي مسعي لنزع الشرعية عن إسرائيل ومقاطعتها والسعي لعزلها وفرض العقوبات عليها، ومحاكمتها على الجرائم التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني وحق الإنسانية جمعاء.
أي أنّ ثمن مثل هذا القرار أكثر من مكاسبه بالرغم من أنه سيُصور على أنه انتصار كبير وتاريخي. إذا لم يكن القرار الذي سيصدر عن مجلس الأمن تحت البند السابع، ويستند إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة بخصوص القضية الفلسطينية مع ضمانات دولية بتفيذه؛ فإنه سيضاف إلى القرارات والاعترافات الدولية السابقة التي هي في واد، وما يجري على الأرض من تقويض لإمكانيات الحل وجعل فرص قيام دولة فلسطينية أصعب وأصعب إذا لم تكن مستحيلة في واد آخؤ.
قد تكتفي الإدارة الاميركية بدعم قرار في مجلس الأمن يدين الاستيطان ويطالب بتجميده، ويدعو إلى استئناف المفاوضات على هذا الأساس، وبهذا توجه إدارة أوباما ضربة خفيفة لنتنياهو من دون أن تغير سياستها المعتمدة.
السيناريو الثالث، أن تكتفي الإدارة الأميركية بغض النظر عن اعتراف أوروبي بالدولة الفلسطينية، وفرض بعض العقوبات التي هددت أوروبا بتنفيذها ضد إسرائيل وانتظار مفعولها على إسرائيل.
إن أي سيناريو يمكن أن يحدث، سواء إذا كان جيدًا أو سيئًا، أو بين بين لا يمكن الاستفادة منه أو درء أضراره ما دام الانقسام الفلسطيني مستمرًا، وما يؤدي إليه من أضرار ليس لها حدود على القضية والشعب. في هذا الصدد لا بد من الحذر من  مبادرة عقد هدنة لمدة خمس سنوات بين إسرائيل و»حماس»  التي تسوق لها أطراف عربية وإقليمية ودولية، مقابل فتح المطار وإعادة تشغيل الميناء، ما يعني عمليًّا تعميق الانقسام وتحويله إلى انفصال، وتمكين إسرائيل من التخلي عن مسؤولياتها بوصفها قوة احتلال على قطاع غزة.
وفي ظل الانقسام ستتمكن حكومة نتنياهو وغيرها من استيعاب أضرار أي قرار سيصدر عن مجلس الأمن، أو أي خطوة ستتخذها الإدارة الأميركية أو الاتحاد الأوروبي، لأنها هي صاحب القوة على الأرض، فإذا لم يكن أي تحرك دولي يشارك فيه جميع الأطراف المعنية، بما فيها جميع الدول الكبرى والإقليمية في إطار الأمم المتحدة، وعلى أساس تطبيق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة؛ سنبقى ندور في دوامة إدارة الصراع وليس حله، وإذا وجد حل فسيكون هزيلًا، وينتقص بشدة من الحقوق الفلسطينية، ويقيم دولة مسخ لا تملك من مقومات الدول شيئًا، وغرضها الأساسي نزع فتيل القنبلة الديمغرافية من خلال منع قيام دولة واحدة تكون في البداية دولة «يهودية»، وتجسد مشروعًا استعماريًا ودولة تمييز عنصري، وستتحول بالنضال إلى دولة ديمقراطية بأغلبية عربية بعد تفكيك وهزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري.
استنادًا إلى ذلك، يجب أن تكون الأولوية لاستعادة الوحدة، خصوصًا في ظل تصاعد التحديات والمخاطر والمؤامرات التي تتعرض لها القضية الفلسطينية.  فالوحدة وحدها يمكن أن تبقي القضية حية، وتوفر مقومات الصمود والتواجد البشري، وتقلل الأضرار والخسائر، وتحبط المخططات الإسرائيلية، بحيث يمكن أن تتحول المخاطر إلى فرص.
نعم، إسرائيل بتطرفها وعنصريتها تستعدي المزيد من الدول، وتزعج حتى حليفها الأكبر في واشنطن، وعلينا أن نشجع التباعد بين إسرائيل وحلفائها والتناقضات داخل إسرائيل، ولكن من دون حسابات خاطئة وأوهام وقعت القيادة الفلسطينية تحت تأثيرها ردحًا طويلًا، ودفع الشعب الفلسطيني ثمنها غاليًا، مثل وهم التمييز بين الأحزاب الإسرائيلية على أساس أن هناك معسكر «سلام» في إسرائيل، وهذا ثبت بالتجربة التي كان آخرها نتائج الانتخابات الإسرائيلية أنه غير صحيح، ووهم التمييز بين الأحزاب الإسرائيلية والشعب الإسرائيلي.
آن الأوان لإدراك أن المزايا التي يتمتع بها الإسرائيليون والأيديولوجية والسياسات التي يتبنوها تجعل من الصعب جدًا تغيير إسرائيل من الداخل. التغيير فيها لا يمكن أن يأتي سوى من الضغط القوي المتصاعد من الخارج، الذي يمكن أن يؤدي إلى زيادة حدة التناقضات وبلورة معسكر سلام حقيقي مناهض للمشروع الاستعماري الاستيطاني.
ولا بد من التخلي عن وهم إمكانية إقامة الدولة عن طريق المفاوضات الثنائية برعاية أميركية انفرادية بإثبات حسن النية والجدارة وبناء المؤسسات، والتنازل عن وحدة القضية والشعب والأرض عبر الاعتراف بحق إسرائيل بالوجود، وفي ظل التنسيق الأمني، والتبعية الاقتصادية، ونبذ المقاومة والتخلي عنها قبل أن تحقق أهدافها، ومبدأ «تبادل الأراضي» سيء الصيت والسمعة، إضافة إلى الموافقة على صيغة «حل عادل متفق عليه لقضية اللاجئين» الذي يضع الحل بيد إسرائيل، وكل ما تضمنه «اتفاق أوسلو» وانتهى إليه وأدى بِنَا الى الكارثة التي نعيش فيها.
هناك تحديات ومخاطر ومؤامرات، إلا أن هناك فرصًا كبيرة على الفلسطينيين أن يحسنوا استخدامها.