رئيس مجلس السلام في غزة يتغزل بالسلاح!

تنزيل (6).jpg
حجم الخط

الكاتب: توفيق أبو شومر


 

تذكرتُ قصتي مع مدرس اللغة العربية في المرحلة الإعدادية، بمناسبة الموضوع المقرر وهو شعراء المعلقات في العصر الجاهلي، كتب مدرسُ اللغة العربية بيتين للشاعر، عنترة بن شداد على السبورة، كان بيتا الشعر يحملان موضوعين مختلفين وهما الحرب والحب، أراد عنترةُ في البيتين أن يتغزل في محبوبته (عبلة) ويصف في الوقت نفسه بطولته (الأسطورية) في معركة دارت بالسيوف وبالرماح والدروع والخيول، نجم عن المعركة سيلان الدم من جسد عنترة البطل، كان مدرس اللغة العربية من أشد المعجبين بالشاعر عنترة بن شداد العبسي، كان يحكي لنا قصة الشاعر وكيف أنه حمى القبيلة من الأعداء نظراً لقوة جسده وشجاعته، وكان المدرسُ مغرماً بطريقة تحرير عنترة من العبودية، وكيف قسا عليه مجتمعه لأنه كان أسود اللون، وكان يردد الحوار بينه وبين سيده شيخ قبيلة عبس، حينما غزا الأعداء مضارب قبيلة عبس فقال له سيدُهُ:  « كُرّ يا عنترة، أي احمل سيفك وحارب الأعداء»  فقال عنترة: «العبد لا يحسن الكر، إنّما يحسن الحِلاب والصّر» فقال سيده: «كرَّ وأنت حر» فَامتشق عنترة السيف وقاتل يومئذ قتال الأبطال فألحقه الشيخ بنسبه، ولم يعد عنترةُ عبداً، بل أصبح سيداً في قبيلة عبس! كتب المدرس بيتي شعر عنترة وهما:
ولقد ذكرتُكِ والرماحُ نواهلٌ ..... مِنِّي وبيضُ الهِندِ تقطرُ من دَمي.
فودَدْتُ تقبيلَ السيوفِ لأنـــــــها.... لمعتْ كبارقِ ثغرِك المتبسّـــِمِ.
أسهب مدرسنا في شرح البيتين، بخاصة في تعبيرات، نواهل ولمعت، وتقبيل السيوف، لم أكن يومها مقتنعاً بمناسبة هذين البيتينِ في الغزل، لأن الغزل لا يُستساغ في زمن القتل والحرب والطعان، كنتُ أخجل أن أعترض على معلمي وأعبر عن رفضي لاقتران الحب بالقتل والدم، فهما نقيضان لا يلتقيان، كان المدرسُ يقدرني ويكافئني، ولكنني تشجعت وسألت مدرسي بـأدبٍ جم: هل الحدثان متناسبان، فالغزل يحتاج إلى الورد والهدوء والسلام ولا يحتاج إلى سفك الدم؟!
حينئذٍ اشتعل غيظ مدرسي وكأنني اعتديتُ عليه شخصياً، ومسست عنترة بن شداد الذي يُجله ويحبه! ولأول مرة عنّفني بقسوة، واستهزأ بسؤالي وقال: العشق في زمنكم، غير العشق في زمن الشاعر، هناك فرق بين مجتمعنا الراهن المسالم الخالي من المعارك والحروب، مجتمع زهور المحبين والعاشقين وبين مجتمع عنترة بن شداد القبلي المؤسس على الغزو والحرب، فالحب والبطولة صنوان لا يفترقان في مجتمع عنترة!
كنتُ أحاول الابتسام والموافقة بهز رأسي، لأُبرز لمعلمي أنني اقتنعتُ أخيراً بتحليله غير الصائب!
أما مناسبة استعادتي لهذه الذكرى فيعود إلى يوم الإثنين الماضي، حين استمعت لخطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قاعة الكنيست، تيقَّنتُ وأنا أستمع للخطاب أن دونالد ترامب كان من أنصار مدرّسي لمادة اللغة العربية، على الرغم من أنه لم يسمع بهذا المدرس، ولم يسمع حتى بعنترة بن شداد ومعلقته الشعرية المشهورة!
الحقيقة التي لا أُنكرها أنني من مناصري الاتفاق بوقف الحرب في غزة، وأدعم هذه المبادرة، لأنها تحقن دماء أهلي وأبناء وطني، غير أنني عندما استمعتُ إلى خطاب الرئيس  ترامب في الكنيست أدركت أن كل القادة السياسيين ديماغوجيون، يُضللون سامعيهم بخطابات خادعة!
أعتقد وفق هذا المبدأ أن السياسيين بارعون في تضليل الشعوب واختراع المسميات التي تحمل موضوعات متناقضة، لن أنسى تهديدات الرئيس ترامب في فترة رئاسته الأولى عام 2017  عندما أراد أن يُفاوض كيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية ليجلب السلام للكوريتين وللعالم، حين افتخر قبل اللقاء بصواريخه الأميركية، وقال مفتخراً بصواريخه: «إنَّها ظريفة، وفاتنة، وجديدة: «Nice, and New, and Smart».
وفي الخطاب نفسه أسهب في الافتخار بقدرات جيشه، وبخاصة في مجال أسلحة الدمار الشامل، وكان ينظر إلى نتنياهو، وهو يفتخر بأن نتنياهو كان دائم الطلب على قنابل الدمار الشامل. افتخر ترامب بأن الخبراء الإسرائيليين بارعون في استخدام سلاح الدمار الشامل الذي تملكه أميركا، وأنه لم يبخل في منحهم هذا السلاح الفتاك المحرم دولياً، ليتمكن من أن يكون في نهاية الأمر رئيساً (لمجلس السلام في غزة)!
قال أيضا بعد أن هدد العالم بالسلاح القاتل: «إنني لا أُحب الحرب لأن شخصيتي شخصية سلام ترغب في إيقاف الحروب» ولكنه نسي مجلس السلام الغزي مرة أخرى وواصل افتخاره بطائراته التي قصفت مفاعلات إيران النووية، وافتخر بأن هناك مائة طائرة رافقت مقاتلاتنا الضخمة، وأن كل طائرة كانت تحتاج إلى أن تتزود بالوقود لقصف المفاعلات سبع مرات في الجو، وأنه يملك خمسين محطة وقود جوية تزود طائراته بالوقود في الجو لتصل إلى غاياتها.
ترامب لم ينس بعد ذلك أن يفتخر بأنه أنهى ثمانية حروب في عهده الميمون خلال ثمانية شهور فقط، وعاد وأكَّد نظريته عندما قال: «سنطبق السلام بالقوة، ونحن نملك أسلحة لم يحلم بامتلاكها أحد، وآمل ألا نُضطر إلى استخدامها»!
إن ترامب يشبه بالضبط أستاذي، أستاذ اللغة العربية، لأنهما مزجا النقيضين معاً، الحب والحرب، والسلام والضرب، هما مؤمنان بأن مزجهما يولد السلام والوئام!
ومن خلال منطقهما «القوة تجلب السلام» فإن ترامب رئيس مجلس السلام في غزة! قال: «انتصرت إسرائيل بقوة السلاح، وبفضل قوتنا وشجاعة جيش إسرائيل سنحقق النصر»!
ولم ينس تكريم جنرالٍ كان يجلس وسط المدعوين، وهو جون دانيال رايزن رئيس هيئة الأركان المشتركة، ليس لأنه رجل سلام، أو لأنه عضو في مجلس السلام الذي يتولى قيادته، أو لأنه سيعمل مهندساً ضمن طاقم ترامب لإعادة بناء ما دمرته طائرات أميركا في غزة، ولكنه كرَّمَهُ لأنه كان مختلفاً عن الجنرالات السابقين الذين طلبوا من ترامب أن يمهلهم ثلاث سنوات أو أربع سنوات ليتمكنوا من القضاء على تنظيم داعش، أما الجنرال، جون رايزن فقد وعد ترامب بأنه سيقضي على داعش في ثلاثة أسابيع فقط! وهذه بطولة (تدميرية) ستجلب السلام هكذا أوفى الجنرال، جون رايزن بوعده وانتصر في وقت قصير!
ماذا لو قرأ الرئيس، ترامب شَغف العربِ بالسلاح في أشعارهم؟ فهل كان سيتمكن من الوزن الشعري العربي ويُغَيِّر بيت الشاعر، المتنبي الذي مدح جيش الخليفة سيف الدولة حين حرر قرية الحدث من جيش الرومان؟
 قال المتنبي يصف جيش سيف الدولة:
خميسٌ بشرقِ الأرض والغربِ زحفُهُ...... وفي أذنِ الجوزاءِ منه زمازمُ.
هل كان دونالد ترامب سيغير كلمة (خميس) بكلمة (صاروخ)؟ فيقول:
صاروخٌ بشرق الأرضِ والغربِ وَمْضُهُ...وفي أذن الجوزاء منه زمازمُ.
وهل كان سيغير بيت الشاعر، المتنبي الذي قال:
ومَن طلبَ الفتحَ الجليلَ فإنما... مفاتيحُهُ البيِضُ، الخفاف، الصوارم.
ليصبح بيت شعر دونالد ترامب:
ومَن طلب الحُكْمَ الطويلَ فإنما..... صواريخُهُ البيضُ الخِفافُ الصوارمُ؟!!