لطالما كان المثقفون، كتّاباً، وأدباء وصحافيين هدفاً للملاحقة والاغتيال والاعتقال، وحتى التكتيك في إطار الصراع الفلسطيني الصهيوني الذي لم يبدأ في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، ولا ينتهي بالتوقيع على «خطة دونالد ترامب».
غير أن الإقرار بهذه الحقيقة المدعومة بأسماء كبيرة تركت بصماتها بأحرف من دم، على خارطة الصراع، لا يجعلنا نقبل أن يكون استهداف الصحافيين في الحرب الهمجية الأخيرة الجارية، ضمن السياق التقليدي لمجريات الصراع الطويل. ما تعرّض له الصحافيون الفلسطينيون خلال هذا الفصل من الصراع الدامي، يخرج عن المألوف، ويتجاوز أية خطوط حمراء، يمكن لمنحاز أن يضعها، أو لقانون ينظمها.
255 صحافياً فلسطينياً من غزة، سقطوا شهداء، خلال السنتين المنصرمتين، ما يتجاوز باعترافات دولية متخصّصة عدد الصحافيين الذين تعرّضوا للقتل، في أية حرب سابقة شهدها العالم، بما في ذلك الحربان العالميتان الأولى والثانية.
لم تكلّف آلة القتل نفسها لأن تقدّم تبريراً لأسباب استهدافها هذا العدد الضخم من عيون الحقيقة، لكنها اجتهدت أحياناً بالنسبة لبعض الحالات لأن تتهم بعضهم مثل إسماعيل الغول، وأنس الشريف، وربما آخرين، بأنهم ينتمون إلى «نخبة المقاومة»، ويعملون لصالحها.
تماماً كما فعلت إزاء الدكتور حسام ابو صفية، مدير مستشفى الشهيد كمال عدوان، الذي تعرّض للاعتقال، والتعذيب، ولا يزال يعاني العزل والبطش والإذلال، وكل ذلك من دون أن تقدم سلطات الاحتلال أي دليل ملموس أو غير ملموس على صحة اتهاماتها.
اغتيال واعتقال عيون الصحافة، كان فصلاً قائماً بذاته، من فصول حرب الإبادة، التي تستهدف منع وصول الصوت والصورة، إلى الرأي العام العالمي.
العمل على إعماء عيون الحقيقة، اتخذ أشكالاً عديدة، أوّلها منع وصول ودخول الصحافيين الدوليين، والوكالات الإخبارية إلى الميدان، لنقل الحقيقة ظناً من سلطات الاحتلال، بأن ذلك يقلل من تأثير الصورة والحدث على الرأي العام، خصوصاً الدولي.
يبدو أن سلطات الاحتلال لا تهتم كثيراً، فيما يتعلق بالرأي العام العربي الذي يمكن أن يصل إلى الحقيقة عَبر بعض الفضائيات القليلة العربية والفلسطينية التي واصلت نقل الحدث كما يجري في الميدان.
منع الصحافيين الأجانب، وكذا فرق التحقيق الدولية، وكثير من مؤسّسات الأمم المتحدة كان، أيضاً، يستهدف إبعاد الشهود عن الحقائق التي تتعلق بجرائم الحرب المتنوعة التي يشهدها القطاع المحاصر.
وفي الاتجاه ذاته، دأبت السلطات الإسرائيلية على مرافقة بعض المراسلين الأجانب، لكي يتجوّلوا في نطاق محدّد، لكي يساهموا في تشويه الصورة، ودعم السردية الإسرائيلية.
ومع الأسف، ساهمت بعض القنوات العربية في عملية التشويه، والتزوير، لكن لا هذه ولا تلك، ولا كل القنوات الإسرائيلية وكل وسائل الإعلام والدعاية التي تسيطر عليها الحركة الصهيونية استطاعت أن تخفي الحقيقة نظراً لبشاعتها المفرطة.
دولة الاحتلال ومنذ بداية حربها البربرية، قطعت بقرار صريح الكهرباء وتلاعبت بشبكة الإنترنت، ومنعت دخول الوقود اللازم لحركة السيارات، وأجهزة البثّ، ظناً منها أنها بذلك تستطيع منع وصول الصورة.
وفي السياق، قامت السلطات الاحتلالية، بمنع بث «قناة الجزيرة» القطرية التي تملك إمكانيات أكبر وأفضل من غيرها، بالمقارنة مع القنوات الأخرى التي لم تتوقّف عن التغطية.
قبل الحرب العدوانية وخلالها، منعت دولة الاحتلال، إدخال معدّات العمل من كاميرات وأجهزة بثّ، ووسائل الحماية للصحافيين، ولذلك كان على المراسلين أن يبذلوا جهوداً جبّارة وأن يتكبّدوا المعاناة، والمخاطرة بأرواحهم ومعدّاتهم، لكي يصلوا إلى منطقة يمكن فيها التواصل، وبثّ تقاريرهم ومراسلاتهم.
لم يتوقّف البثّ، ولم يتوقّف المغرّدون الفلسطينيون عَبر منصّات التواصل الاجتماعي، ولذلك لجأت قوات الاحتلال إلى الاتصال المباشر مع عدد كبير من الصحافيين والمراسلين، وإطلاق التهديدات لهم ولذويهم، بالقتل، إن لم يصمتوا، ولم يصمتوا بالتأكيد.
عديد الصحافيين فقدوا عائلاتهم وأحبّاءهم، وبيوتهم، قبل أن يتعرّضوا شخصياً للاغتيال. قتل الصحافيين لم يتوقّف حتى بعد أن قيل إن الحرب الهمجية توقّفت، فلقد تم استهداف مقر لهم ما أدّى إلى استشهاد اثنين.
بعض الحاسدين، كانوا يهمسون بينهم وبين أنفسهم وربما مع آخرين، بأن الدافع خلف استمرار الصحافيين في عملهم حتى اللحظة الأخيرة سببه ما يحصلون عليه من مكافآت.. هؤلاء كما جوقة المحبطين والمتشائمين والمروّجين لليأس والإحباط، ينبغي أن يعيدوا حساباتهم، بعد أن أدركوا، أو أنهم لم يدركوا بعد، أن صمود ومواصلة الصحافيين عملهم يقف خلف صمود رائع، وإصرار على نقل الحقيقة والدفاع عن الضحايا.
حتى لو أنهم يعلمون أن مصيرهم لا يختلف عن مصير الشهيدة شيرين أبو عاقلة، ماذا ينفع المال، حين يتعرّض الإنسان للاغتيال، وحين يُفقد من يمكنه الاستفادة من هذا المال؟
بالتأكيد هؤلاء الأبطال يعرفون الحقيقة، وقد عايشوها، وكانوا يعرفون أنهم سيدفعون ثمن بطولتهم.
في الواقع، فإن من يعرف ما الذي يتقاضاه الصحافيون، والكتّاب والمحلّلون السياسيون الفلسطينيون بشكل عام، سواء في غزة أو الضفة، يدرك أنهم بالكاد، يتدبّرون أحوال معيشتهم.
الصحافي والكاتب في فلسطين لا يستطيع بما يحصل عليه، سواء كان مكافأة أو راتباً من أن يدير أسرة، خلافاً لأمثالهم في بلدان أخرى، الصحافيون في غزّة الشهداء منهم والأحياء والجرحى، يعكسون بحقّ، عمق الوطنية الفلسطينية، والثبات على المبادئ والحقوق، وهم أهم الشهود على العصر، ودماء من استشهد منهم تشكّل أهم القرائن على ما ارتكبه الاحتلال الفاشي، فضلاً عن أنهم أصحاب فضل في تنوير الرأي العام العالمي، بحقائق الجرائم البشعة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني وساهموا بفعالية في إسقاط وإزاحة السردية الإسرائيلية.
