مُسحت من السجل المدني

تقرير: في غزة.. عائلات كاملة ارتقت جماعات وأجسادهم ما زالت حبيسة الأنقاض

في غزة.. عائلات كاملة ارتقت جماعات وأجسادهم ما زالت حبيسة الأنقاض
حجم الخط

غزّة - خاص وكالة خبر - مارلين أبو عون

هذه المرة تُعَدُ من المرات القلائل التي يقف فيها القلم عاجزاً عن كتابة الوجع والقهر الذي يعيشه أهل غزّة، فكلما هممت بكتابة كلمة تخونني باقي كلماتي وتعجز عن الحضور.

الألم المتكرر الذي يعيشه الإنسان في غزّة، لايمكن لأيّ عقل أنّ يستوعبه، فكم هي القصص المروية والغير مروية حاضرة في قلوبهم ووجدانهم، يتحدثون بها للقريب والغريب علهم يُنفسوا عن مكنونات أرواحهم ولو بالشيء القليل، ويخففوا من ثقل الوجع الذي أصبح جاثماً على صدورهم.

عشرة ألاف أو ما يزيد من الأرواح عاشت رعباً ولهيباً من صواريخٍ لم ترحم صراخهم ولا توسلاتهم بأنّ يكون لهم نصيب من الحياة، وبعض الأرواح كانت نائمة في أمان الله لا أمان البشر، فحرقت أجسادهم تلك الصوايخ وانتقلت أرواحهم إلى السماء باكيةً شاكيةً ظلم البشر.

مر عامان على حربٍ مسعورةٍ حرقت الأخضر واليابس ولم تترك حياً أو غير حي إلا وأحرقته، وما زالت جثامين الشهداء محبوسة بين أنقاض المباني والعمارات المهدمة، لا آلاتٌ لإخراجها ولا ضمير حي يساعد في رفع ظلم القهر عن تلك الجثامين.

انقشع غبار الحرب وبدأ الناس في غزّة  بلملمة جراحهم والبحث عمن تبقى من جثامين ورفات أحبائهم وإخراجهم من تحت الركام لدفنهم في المقابر.

وكالة "خبر" التقت بعضاً من عائلات مكلومة مفجوعة على فراق ذويهم الذين مازالوا تحت الأنقاض ولم يُكرموا بمقبرة تليق بالمسلمين الموحدين بالله وعاشت معهم اللحظات الأولى التي عاشها أحبائهم وأهلهم قبل ارتقائهم.

"سموه آدم لأنه هيضل وحيد"

شاب.jpg
 

طبيب الأسنان محمد ماجد حمو، كانت له أحلام وأمنيات يسعى لتحقيقها رفقة عائلته الصغيرة، كان يفرح حين تخبره زوجته بأنّه ينتظر طفلاً جديداً قادم للحياة، محمد لديه طفلة وطفل لم يمر على رؤيته لنور الحياة سوى أسبوع واحد وخطفت منه الحياة والده.

في اللحظات التي تسبق استشهاد محمد كان برفقة عمه يوسف الذي رافقه في طريقه للمنزل وشهد معه لحظات صعبة أثرت عليه نفسياً وجسدياً، يقول يوسف: "كنت برفقة ابن أخي محمد في طريقه للعمارة التي يقطن بها شمال القطاع، كان ذلك بتاريخ 22 أكتوبر عام 2023 أي في الأيام الأولى للحرب، كانت في ذلك الوقت زوجة محمد قد وضعت طفلها وأصبح عمره أسبوع واحد فقط، في مدرسة أبو عاصي المكان الذي نزحت إليه العائلة بعد إخلاء منطقة المقوسي والكرامة، حيث اتجهت بعض العائلات لمراكز الإيواء لحمايتهم من قذائف الاحتلال".

ويُتابع في حديثه لمراسلة "خبر": "كما تعلمين في وقت النزوح يرتبك الناس ويخافون ويخرجون مسرعين لا يأخذون معهم أشياءهم كلها، فهم يأخدون الشيء البسيط الذي تراه أعينهم فقط، وحين وضعت زوجة ابن أخي طفلها لم تكن تحمل ملابس مولودها معها وقت النزوح ولا حفاظاته ومتعلقاته الخاصة، وفي ذلك الوقت كان الجو بارداً جداً في الليل فصمم محمد أنّ يذهب إلى العمارة التي يقطن بها ويُحضر كل مايلزم من ملابس وأشياء خاصة بعائلته ليحميهم من برد وظروف الحياة القاسية، رغم أنني وزوجته حاولنا ثنيه عن ذلك، بسبب خطورة الوضع لكنه لم يسمع منا، مؤمناً أنَّ ماكتبه الله سيحدث، فرافقته في طريقه للمنزل لأنني أمتلك سيارة خاصة بي ولكي أساعده على حمل أغراضه والعودة بسرعة لمكان نزوح العائلة".

ويُواصل: "ما أنّ وصلنا إلى مكان العمارة التي يسكن بها محمد حتى نزل هو وتوجه داخلها لجلب الأغراض، وبقيت أنا على بعد نحو مئة متر عن العمارة، فجأة دوى انفجار ضخم بصاروخ استهدف العمارة التي دخل إليها محمد ومن قوته طرت بعيداً عن المكان ولم أشعر بنفسي وقتها فقد أصبت بكسور في مناطق متعددة من جسدي، الصاروخ دمر العمارة بشكل كامل، فقد انهار 7 طوابق على محمد وهو داخلها وغيَّب غبار الصاروخ محمد عن الحياة أو أيّ فرصة للنجاة".

وحين سألنا يوسف عما إذا كان أحد من سكان العمارة داخلها وقت الاستهداف، قال: "لم يكن أحد في المنطقة ولا بالعمارة متواجد في ذلك الوقت، منطقة المقوسي كانت مخلاة من السكان ونحن لم يكن في نيتنا المكوث كثيراً، كل مافي الأمر جلب الأغراض والخروج من المنطقة بسرعة لكن الصاروخ لم يُمهل محمد وقت لينقل أغراض طفله الجديد للسيارة فقتله وهو يحملها ويهم بالخروج من العمارة".

ويُضيف: "حاولنا الاتصال بمحمد وكان هاتفه يعطينا إشارة، وظللنا على هذا الحال يومين، يرن الهاتف ومحمد لايجيب، وبعدها انقطع الاتصال نهائياً، لا إشارة ولا استقبال".

ويستذكر يوسف المواقف مع ابن أخيه الشهيد، ويقول: "العائلة والغريب ينادون محمد بأبوماجد قبل أنّ يتزوج وقبل أنّ يُرزق بطفله، تيمنًا باسم والده ماجد وكعادتنا أنّ نُسمي الطفل الأول (الحفيد) باسم جده، في أحد المرات قال لنا "سمو ابني آدم لأنّه سيكون وحيد، متلي أنا، تفاجأنا حين سمعناه يقول ذلك، وفعلا وُلد طفله وأسماه آدم ولم يفرح به سوى أسبوع واحد وتركه وحيداً في هذه الحياة كما قال وكما عاش هو".

وكما هو حال الذي يَفقد حبيبًا أو عزيزًا عليه يتجه لوسائل التكنولوجيا "الذكاء الاصطناعي" لتجمعهم صورة واحدة مع ذلك العزيز، ولأنّه لم يشأ القدر أنّ يشهد محمد على حياة ابنه في مراحله الأولى من حياته حتى وصل العامين منه لجأت والدته لجمع زوجها بابنه الوحيد آدم في صورة واحدة بعد عامين على استشهاده وبلوغ طفله العامين، بالإضافة لطفلته التي لم تعش حنان والدها".

"18 فردًا من عائلتي تحت الأنقاض"

عائلة الشوا.jpg
 

معتز الشوا، هو واحد من آلاف الأشخاص الذين فقدوا جميع أفراد أسرتهم في ليلة واحدة،  قصته مثل آلاف القصص المفجعة التي لن يساها طيلة حياته، فقد فيها أكثر من 18 فرداً من أحبائه، أبيه وأمه وأخوته وزوجاتهم وأولادهم وما زالوا تحت أنقاض منزلهم منذ الحادي عشر من شهر ديسمبر عام 2023.

بدأ معتز حديثه مع مراسلة وكالة "خبر" بسرد أسماء أفراد عائلته الذين ارتقوا وكأنه يسرد وجعاً يحفظ كل تفاصيلة مرة واحدة، فيقول: "لقد ارتقى أبي ماجد الشوا وأمي هيلين، وأخي الأكبر فادي ماجد الشوا، وزوجته  نيڤين السرسك وأطفالهم ( فارس- فراس-شهد)، وأخي الأصغر إيهاب ماجد الشوا وزوجته ولاء السرسك وأطفالهم (محمد -هلين-شام)، بالإضافة لأختي الكبيرة، سهير ماجد الشوا، وجميع أبنائها (مصطفى - محمد-نوال-مهند -نورهان) من عائلة سالم، استُشهدوا جميعاً في مجزرة عائلة سالم عند مستوصف الشيخ رضوان برفقة 70 شهيد آخر من عائلة سالم".

وعمن بقي من عائلته الذين لم يكونوا في نفس المكان الذي استُشهد فيه الآخرون، يقول: "تبقى من عائلتي أختي الصغيرة وهي تقطن في مخيم البريج، وأخي محمد الذي يسكن في مدينة غزة "يبعد عن منزل عائلتي"، وأنا مقيم في بلجيكا ولدي طفلة خرجت في بداية الحرب من غزة قبل أنّ أودع أهلي وداعاً يليق بالشهداء ولم أشاهد جثامين لهم لكي يُصلي عليهم الناس ويواروهم الثرى".

ويُتابع: "لقد قصف الاحتلال مربع آل سالم بالبيوت المحيطة به وكانت مجزرة مروعة استشهد فيها أكثر من 80 شهيداً، من ضمنهم عائلتي حيث نُسف المنزل المكون من 5 طوابق  فوق رؤوسهم وارتقوا جميعاً”.

ويستذكر معتز اللحظات الجميلة والبيت الدافء الذي كان يضم العائلة ومَنْ يُحبهم، ويقول: "كان الأقرب لقلبي هو أخي الكبير فلم تكون فقط رابطة الأخوة هي التي كانت تربط بيننا بل كان صديقي وحبيبي وأعتبر ابنته شهد بمثابة ابنتي الروحية فقد تربت وترعرعت في بيتي وليس في بيت أخي، فحين أنجبت زوجة أخي توأمها ولد وبنت أخذت البنت وأصبحت تنام في بيتي وأُلبي لها كل ما تريد وتعلقت بها تعلقاً شديداً". ويُواصل بحرقة: "كسرني فراقها أكثر من أي شخص آخر بالعائلة". 

وبسؤاله عن آخر مرة شاهد فيها أهله والتقى بهم، فقال: "آخر مرة شوفت فيها أهلي كانت قبل الدخول البري بأسبوع، أنا نزحت لرفح لأكون قريبًا من المعبر وأسافر، وهم بقوا في غزة".

وعن أمنياته، يقول معتز: "أتمنى أنّ يُسارع الساسة ومن يمسكون بزمام أمور المفاوضات بإدخال الآليات والمعدات اللازمة لرفع الركام وإخراج جثامين أهلي الشهداء، ليتم تكريمهم في مقابر تليق بهم"، مُوضحاً أنّه تواصل معه موظفاً من مؤسسة حقوق الإنسان وطلب منه توكيلاً خاصاً منه يُخول الأخير برفع قضية على الاحتلال في محكمة الجنايات الدولية عما اقترفوه بحق عائلته، آملاً في أنّ تنجح تلك القضايا والمحاكمات بمساءلة ومحاكمة الاحتلال ومعاقبته على ارتكابه مجازر مروعة في غزّة".

"فقدت أختين وأولادهم وأزواجهم"

عائلة السمك.jpg
 

عائلة السمك وزيارة وعمَّار كان لهم نصيب من الإبادة التي ارتكبها الاحتلال بحقهم، فقصف بيوتهم فوق رؤوسهم، لا ذنب لهم سوى أنّهم أرادوا أنّ يعيشوا ويناموا في بيوتهم آمنين مطمئنين بأنّه لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم.

رواء السمك، تقول لمراسلة "خبر": "عند الساعة الرابعة قرأت خبراً يفيد بأنّه تم قصف برج تاج 3 في مدينة غزة بمنطقة اليرموك، صُدمت حين قرأت الخبر، فهذا البرج هو نفسه الذي تقطن فيه أختي وبيت عمها وسلفتها وأطفالها وعدد من النازحين كانوا في العمارة التي تتكون من 7 طوابق".

وتُتابع: "رحلت أختي سميرة السمك 61 عاماً وابنها هاني زيارة 35 عاماً وزوجته علا 31 عاماً، وابنتها نجوى زيارة 30 عاماً، والأطفال سميرة ونافذ 8 سنوات، وابتسام زيارة 49 عاماً".

أما عن فقدانها لأختها الثانية، تقول رواء: "حين سمعنا بالخبر اتصلت على هاتف ابنة أختي وكان الهاتف يرن ولا أحد يُجيب، كنت أعلم أنهم تحت الأنقاض ولكن كان عندي أمل بأنّهم أحياء لذلك كنت أتصل على رقم ابنة أختي حتى انقطع الاتصال بعدها".

وتُواصل: "رحلت شقيقتي بشرى عبد الكريم السمك 55 عاماً وزوجها بيان هاني عمار 65 عاماً وابنتهم ميس عمار 13 عاماً، داخل شقتهم في منطقة الرمال بعد أنّ أبلغهم الاحتلال بإخلاء المنطقة لكنهم لم يمتثلوا لأوامره وفضلوا البقاء في بيوتهم حتى قصفهم وهم بداخلها".

وتقول بحرقة: "أفتقد أختاي الكبيرتان شقيقتا الروح، غادرتا هذه الدنيا الفانية دون وداع، قتلهم الاحتلال ولم يترك لهم ذرية من بعدهن، حسبنا الله ونعم الوكيل".

ما ورد في هذا التقرير هو صورة مصغرة جداً عن آلاف القصص الغير مروية لعائلات أُبيدت وحُذفت من السجل المدني، كانت تُريد الحياة لكن الاحتلال أراد لها غير ذلك فأطلق حمم صواريخه باتجاه بيوتهم واحترقت أجسادهم الضعيفة تاركين وراءهم أحلاماً تمنوا أنّ يُحققوها في غزّة.

وكالة "خبر" استطلعت بعضاً من مآسي الناس حول هذه القضية عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، فكانت كالتالي:

تقرير: في غزة.. عائلات كاملة ارتقت جماعات وأجسادهم ما زالت حبيسة الأنقاض
تقرير: في غزة.. عائلات كاملة ارتقت جماعات وأجسادهم ما زالت حبيسة الأنقاض
تقرير: في غزة.. عائلات كاملة ارتقت جماعات وأجسادهم ما زالت حبيسة الأنقاض
تقرير: في غزة.. عائلات كاملة ارتقت جماعات وأجسادهم ما زالت حبيسة الأنقاض
تقرير: في غزة.. عائلات كاملة ارتقت جماعات وأجسادهم ما زالت حبيسة الأنقاض
تقرير: في غزة.. عائلات كاملة ارتقت جماعات وأجسادهم ما زالت حبيسة الأنقاض
تقرير: في غزة.. عائلات كاملة ارتقت جماعات وأجسادهم ما زالت حبيسة الأنقاض