في كل مرة يبرز اسم ياسر عرفات كتاريخ وحاضر قادر على أن يقدم إجابات على الواقع، في افتراض مذهل لمقدرته على أن يكون مختلفاً وممسكاً بحلول سحرية غابت عنا جميعاً. وهو افتراض له ما يبرره وإن كان مرده الحقيقي الهالة الحصرية التي أضفاها عليه التاريخ وحب الجماهير له. فعرفات قادر على منع الكثير من الأشياء، والكثير من المصائب ما كانت لتحدث لو كان حياً؛ وحتى لو وقعت لوجد طريقة للتخفيف من آثارها الكارثية، وإلى جانب ذلك فإنه سيكون اكثر مقدرة على التعامل مع النتائج أيضاً. وكل هذا ليس إلا من تصور المخيال الشعبي عن الرجل الذي قال عنه درويش إنه الفصل الأطول في حياتنا.
وهو بالطبع، أي عرفات، قد لا يكون قادراً على فعل كل ذلك، وقد لا ينجح في تقديم حل جذري لكل تلك المشاكل، لكن الافتراض أنه قادر على ذلك نابع من مخيال وطني يشكل عرفات قلبه النابض. وربما أن الحنين للزمن العرفاتي لا يتأسس على حقائق بقدر ارتباطه بعاطفة، العاطفة التي جعلت الرجل جزءاً من حياة أي فلسطيني حتى أشد معارضيه. فلكل فلسطيني حكاية خاصة مع عرفات، حكاية تجعل منه، من هذا الفلسطيني، مركز علاقة عرفات مع الآخرين، حتى لو تمثلت تلك الحكاية بسلام عابر في الطريق أو بتحية اجتماعية في مناسبة دينية أو وطنية، فعرفات جزء من حكايات الناس حول تعريفها لنفسها ولماضيها ولسيرتها الوطنية. لذلك فإن الربط بين الفردي والجماعي في العلاقة مع عرفات يختصر الكثير من هذا الترابط بين الوطني العام وبين السيرة الذاتية، للدرجة التي تصبح الإحالة فيها لعرفات جزءاً من الإشارة للكفاح الجماعي.
وعرفات بما مثله من سيرة ومسيرة، وما قام به من قيادة للشعب الفلسطيني في لحظات الانبعاث والانفكاك مع الوصاية التي حرمت الشعب الفلسطيني من قيادة كفاحه التحرري، سيظل لعقود قادمة وربما لقرون العلامةَ الأبرز في مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني، وبذلك فهو سيظل جزءاً محورياً ليس من التاريخ العام بل أيضاً من شهادات الأفراد على الزمن الذي عاشوه، أو كما عبر عن ذلك الراحل أحمد عبد الرحمن من أننا عشنا في زمن ياسر عرفات.
يبدو تذكر عرفات في هذه اللحظات أمراً طبيعياً، ويبدو الحنين للزمن العرفاتي حنيناً مبرراً مع ذلك، ليس لأن ثمة شيئاً خارقاً في ذلك الزمن، وليس أنه كان أفضل ما يمكن ان نكون قد خبرناه في حياتنا، وليس لأن واقعنا أشد فتكاً بأوجاعنا، ولكن إلى جانب كل ذلك لأن ثمة حنيناً لحضور الرجل الذي كانت كوفيته تشير إلى القضية، وكانت كلماته على ما فيها من مبالغة وبلاغة وسطوة للمشاعر قادرة على أن تجعلنا نُحس أننا في حال أفضل، فهو حين يقول إن النصر قريب، أو إننا شعب الجبارين وأن الجبل لن تهزه كل الرياح، وأن الدولة على مرمى حجر، فإنما يصوغ لنا ما يخفف من قسوة ما نعيشه.
كان عرفات قادراً دائماً على أن يكون الإجابة السحرية وإن لم تكن الواقعية، على كل الأسئلة التي كانت تُقلق وجود الشعب الفلسطيني. وربما عمله مع رفاق دربه في الخلية المؤسسة لفتح على تأسيس الحركة نبع من هذا الإحساس، بضرورة أن تصوغ الحركة الوطنية حلولاً تستجيب لطبيعة الأسئلة بعيداً عن ترف الأيدلوجية القومية أو الماركسية أو الإخوانجية التي كانت سائدة في ذلك الوقت. كانت إجابة عرفات ورفاق دربه أن الشعب الفلسطيني لا تهمه تلك النقاشات، بل يهمه أن يستعيد بلاده، لذا فإن جوهر الإجابة كمن في القتال حتى النصر. بذلك واصل عرفات الحفاظ على إيقاع الإجابة ذاتها، ولم يتنازل عنه حتى حين كان يفاوض من أجل عشرين بالمائة من أرض الآباء والأجداد، حيث كانت عيناه على الخريطة كلها، ولم يقبل أن يتنازل عن أي شيء، كان يريد حماية ما يمكن حمايته والحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه، وكان يدرك أن جوهر النصر الفلسطيني يتمثل في استمرار الكفاح من اجل استعادة البلاد، لذلك فكل الطرق التي لا تقود لفلسطين ليست إلا أيدلوجيا زائفة، وكل المعارك التي لا تجري من أجل السير قدماً نحو البلاد هي معارك الآخرين ولا نتدخل فيها، لذا لم يرهن القرار الوطني لجهة خارجية، ولم يقاتل باسم الآخرين، ولم يرَ أي شيء إلا من منظور قربه أو بعده عن فلسطين، لأجل كل ذلك حاز عرفات حقيقة أنه أصبح «عرفاتنا».
ما زلت أتذكر ابنتي يافا وهي بالكاد تبلغ سنتها الثانية تشير لصورة عرفات على جدار بيت جدها وتقول «عرفات». لعلني ذكرت القصة على هذه الصفحة قبل عقد من الزمن وقت حدوثها، ومازلت لم أفهم كيف لطفلة مثلها بالكاد تنطق أسماء إخوتها يمكن لها أن تشير لصورة على جدار البيت للرجل وتنطق اسمه. ابتسمت وقتها غير مصدق كيف يكون عرفات جزءاً من الذاكرة الجمعية كأن الأمر يحدث بالفطرة، وبالفطرة المجردة من أي موقف أو تعريف أو ارتباط عاطفي مسبق. وحين يخرج أطفال المدارس يهتفون لعرفات ويضعون صوره على حقائبهم المدرسية فإن مثل هذا الإدراك يتعزز، إذ إن غالبتهم وُلدوا بعد استشهاده.
قبل أكثر من شهر وفي نقاش مع برلمانين إيطاليين عقب ندوة سياسية، سألني أحدهم ماذا كان يمكن أن يفعل عرفات لو كان حياً لوقف الإبادة؟ كان نقاشاً طويلاً لكنه يعكس أيضاً الدور الذي يفترضه حتى الأجانب في مكانة الرجل وقدرته على إحداث فارق في السياسة. فلسطينياً كما إقليمياً يمكن تخيُّل الكثير من الأشياء، لكن أيضاً كل هذا التخيل لا يمكن أن يغير من الواقع، ولا يمكن أن يخلق واقعاً جديداً، لكنه أيضاً يصلح، أي هذا التخيل، في استذكار عرفات، ليس في اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر من كل عام بل في كل وقت.
