القدس تعاني «شَللاً» سياحياً واقتصادياً

0
حجم الخط

أمّ نحو 500 إسرائيلي، الخميس الماضي، «مغارة صديقياهو» المفعمة بالأساطير والغموض، المجاورة للمكان الاكثر عرضة للعمليات في القدس في الاشهر الاخيرة – باب العمود. بيعت كل البطاقات، المدعومة حكومياً كما ينبغي القول. وقد وصل الجمهور في سفريات منظمة الى باب المغارة، وتجمع في النهاية هناك، وأعيد الى المحطة الهادئة والامنة في غرب المدينة. أما باب العمود فلم يره الزوار إلا عبر زجاج الباص. ورغم ذلك فان عددا كبيراً من الاسرائيليين يظهر في هذا المكان وفي هذا الزمان. طريقة التسفير المنظم التي تتجاوز نقاط الاحتكاك والخطر وتجلب الجمهور الى نقطة الجذب السياحية او الدينية، ليست جديدة. وقد استخدمها هنا رجال شركة تطوير شرقي القدس وسلطة تطوير القدس ممن يستثمرون الكثير لتعزيز وتثبيت العلاقة الهزيلة في هذا الزمن بين الجمهور الغفير وبين المواقع المقدسية الساحرة كمتنزه الاسوار، حديقة عوفل، او مغارة صديقياهو. في جنوب القدس يستخدم التسفير القادة الدينيون والاثرياء من أجل جلب مئات الآلاف كل سنة الى قبر راحيل، تماما حتى مدخل النطاق المحصن، على خط التماس بين بيت لحم والقدس. كقاعدة، لا ينقص القدس أحداث عامة ومهرجانات ثقافية، موسيقية، سينمائية، يهودية وموسيقى جاز. وفي الاشهر الاخيرة جرى العمل على بضع حملات لجذب المزيد من المتنزهين الى المدينة. وبالتوازي خصصت الحكومة 100 مليون شيكل لمساعدة اصحاب الاعمال التجارية ممن تضرروا على سبيل التعويض، ولكن رغم كل شيء فإن السطر الاخير هو أن «الارهاب» يساوي الشلل الاقتصادي، وان لم يكن الشلل فبالتأكيد الضرر الشديد. وتشعر القدس بذلك على جلدتها. ألف رجل اطفاء سيجدون صعوبة في شطب أثر حدث طعن واحد في باب الخليل في الطريق الى «المبكى»، أو إطلاق النار في باب العمود أو زجاجة حارقة في التلة الى «غيلو». «تغليد»، المنظمة التي تنقل جوا لزيارة البلاد عشرات آلاف الشبان اليهود من الشتات، تنقذ الوضع قليلا، ولكن رؤيا عشرة ملايين سائح في قدس نير بركات تبدو هذه الايام أبعد من أي وقت مضى. السياحة هي أحد شرايين الحياة في القدس. نحو 80 في المئة من السياح الذين يصلون الى اسرائيل يأتون الى العاصمة، بنحو مليونين في السنة. واحد من كل ستة مقدسيين يعمل في الفرع. نحو 25 في المئة من مداخيل العاصمة تقوم على اساس السياح. وعندما يهتز الأمن فان السياحة وفروعها هي أول ما يتضرر. الضرر عرضي، من مستوى سائق السيارة العمومية ومحلات السوفينير والحلي، مروراً بمرشدي السياحة، والمطاعم واماكن الترفيه وحتى الفنادق. هدوء نسبي في القدس. انخفض عدد العمليات، ولكن تأثير موجات «الارهاب» على الاقتصاد المقدسي بعيد المدى. الانباء الطيبة هي أن الشرطة والمخابرات تنجح في السيطرة على العديد من بؤر الاشتعال؛ فقد اعتقل الآلاف وقدم المئات الى المحاكمة. واذا كان في الربع الاخير من العام 2015 في القدس 242 عملية قاسية (سكاكين، نار، دهس وعبوات ناسفة) ففي كانون الثاني 2016 هبط العدد الى 35 فقط (معطيات شباط لم تتوفر بعد). كما أن الاغلاقات على بعض من الاحياء في شرقي القدس – كالعيساوية وجبل المكبر – فعلت فعلها، الى أن رفعت. اما الانباء المتشائمة فهي أن الحياة الاقتصادية والسياحية بعيدة عن العودة الى العاصمة. إغلاق عشرات المطاعم الإشغال السنوي المتوسط للفنادق في العاصمة يبلغ 70 في المئة، ولكنه كان في كانون الاول الماضي 41 في المئة فقط. ويقول مدير عام اتحاد الفنادق في المدينة، آريه زومر، انه مقارنة بكانون الاول 2014، يعد هذا انخفاضا بمعدل 17 في المئة. ومقارنة بكانون الاول 2013 فهو انخفاض بمعدل 33 في المئة. كانون الثاني هو الآخر كان ضعيفا. «الفنادق تقلص قواها البشرية»، يقول، «تغلق طوابق وتخرج عاملين الى الاجازة، وكل ذلك من اجل البقاء على قيد الحياة». ويشير زومر الى أن موجة الارهاب «تترافق ووضعا اقتصاديا سيئا في دول كروسيا او ايطاليا. ولهذا فان الضرر يتعاظم اكثر فأكثر. اما الانخفاض الاشد فهو في السياحة الداخلية الاسرائيلية؛ والضرر المعتدل أكثر هو في السياحة الخارجية وكذا في الحجيج الديني». ليلاخ حاييم، وكيلة سفريات قديمة، تدير اساس عملها مع جماعات الحجاج من الخارج، تشير هي ايضا الى الربط بين تعثر الحظ والازمة الاقتصادية الحادة في دول كروسيا، ايطاليا، والسوق اللاتينية وبين الوضع في البلاد. وتقول حاييم انه «رغم هذا، فان الضرر الاشد في السياحة المقدسية يلحقه الاسرائيليون بأنفسهم. السياحة الداخلية الى القدس»، كما تشهد حاييم وتشهد شوارع المدينة ايضا، «كادت تختفي. فالاسرائيليون يتنفسون ويعيشون واقع الارهاب والتهديد بالارهاب في العاصمة اضعاف ما يفعله الجمهور الاجنبي. فكل حدث حتى وان كان هامشيا – يبلغ عندنا على الفور وبتوسع. اما في الخارج، بالمقابل، فان اسرائيل ومشاكلها ليست في مركز الاهتمام. كانت لدينا مجموعات زارت مدينة داود، بينما الاسرائيليون انفسهم خافوا ولم يأتوا. بالمقابل، فان السياح من الخارج، من الهند ومن الولايات المتحدة ممن هم أقل وعيا واطلاعا فقد جاؤوا ولم يخافوا». شمعون زيمر، مرشد سياحي، مثل ليلاخ حاييم يعمل اساسا مع الحجاج الدينيين، يشعر بان الضرر شديد في هذا الفرع من السياحة، ويروي عن الغاءات عديدة لزيارات من الولايات المتحدة، من كندا، ومن اوروبا: لقد قلصت شركات كبيرة عدد ايام العمل الى أربعة في الاسبوع لتفادي الاقالات. ومطعم مؤسسة الكارثة والبطولة التي هي احد مقاييس عمق الازمة يشعر هو ايضا بالانخفاض الحاد في عدد الزوار». ويصف رئيس منتدى السياحة في القدس، ميخائيل فايس، واقعا مشابها فيقول: «الوضع في هذه اللحظة غريب: فمن جهة انخفضت كمية العمليات في المدينة جدا ومن جهة اخرى لا توجد مؤشرات إلى أن السياحة اليوم بما فيها الداخلية تعود الى المدينة. هناك تآكل بمعدل 30 في المئة في كمية السياح وفي المداخيل من السياحة. وفي الاشهر الاخيرة اغلقت عشرات المطاعم والمحلات التجارية في مجال الغذاء في القدس. اما الدولة والبلدية فتفعلان كل شيء لتغيير الوضع، ولا شكوى عندي تجاههما. المشكلة هي الجمهور الذي قرر اغلاق بيته على نفسه». «فليأخذهم الشيطان» من يعانون بقدر لا يقل عن ذلك هم التجار والفنادق في شرق القدس، ولاسيما في البلدة القديمة. وهناك ايضا يشعر التجار بالانخفاض الحاد في عدد الزوار. انخفاض بعشرات في المئة في الانتاجية، وفي الأشغال في الفنادق وبإحباط شديد. جورج، صاحب مطعم في شارع الواد في البلدة القديمة، يصف ما حصل لعمله بعد العملية التي قتل فيها أهرون بينيت ونحمايا لفي قبل بضعة اشهر فيقول: «هذا المحور، الذي يربط بين باب العمود والاقصى والمبكى، كان خليطا مباركا من اليهود، المسلمين، والسياح من كل العالم. وقد انعشونا اقتصاديا. اشتروا من محلاتنا السياحية حلويات، احذية، والبسة. اما اليوم فنصف الاعمال التجارية هنا ميتة. بعضها اغلق. بعضها اخذ إجازة. «الارهاب» و»التطرف» سيئان لنا. فليأخذهما الشيطان». مريك شتيرن، باحث في معهد القدس للبحوث الاسرائيلية، يعمل على بحث شامل يعنى باندماج سكان شرق القدس في سوق العمل في المدينة. وفي تشرين الاول عرضنا هنا اساس نتائج بحثه: 66 في المئة من العاملين في فرع البناء في القدس هم عرب شرق المدينة؛ نحو ثلث عاملي الصناعة؛ 75 في المئة من العاملين في فرع الفندقة؛ 52 في المئة من عاملي فرع المواصلات (اساسا يعملون سائقين في ايغد، السيارات العمومية، والقطار الخفيف) و22 في المئة من عاملي الرفاه الاجتماعي. فالتعلق المتبادل هائل. الخوف متبادل في الاشهر التي سبقت تقدّم شتيرن في بحثه. فقد وجد أنه في سنوات 2006 – 2014 ارتفع معدل الاجيرين العرب من شرق المدينة في قوة العمل الاقتصادية المقدسية من 22 في المئة الى 28 في المئة. وانه حتى في سنوات التوتر الاخيرة تواصل الارتفاع وازداد التعلق: في مجال البناء وصل معدل العاملين العرب 69 في المئة وفي خدمات المواصلات 55 في المئة. هذا الاسبوع التقى مجموعة بحث من شعفاط. والى جانب التعلق شخّص هناك خوفا واحباطا. وينبع الاحباط من السقف الزجاجي الذي لا ينجح العاملون العرب في اقتحامه. فهم يعملون أساسا في الاعمال اليدوية، وفي الخدمات، اعمال الياقات الزرقاء. «ينبع الخوف من انه في الواقع القائم تجدهم يشعرون غير مرة مهددين في المجال اليهودي، الذي من ناحيته يشعر بأنه مهدد من العرب الذين يصلون اليه. هذا خوف متبادل»، كما يشير. وروى المشاركون في مجموعة البحث بانهم قللوا، مؤخراً، زياراتهم الى المجالات المشتركة التي كانوا يؤمونها في الماضي، في الحدائق، في التجمعات التجارية، وفي مراكز الترفيه. «من ناحيتهم، التركيز الآن هو مهني – تشغيلي. في الماضي ايضا كانت هناك علاقات شخصية اكثر، اما اليوم وعلى خلفية التوتر الشديد، قلت هذه العلاقات بمعدل كبير». وبالفعل، ما سمعه شتيرن في شعفاط تبثه الأرض على طول كل الجبهة: فمؤخرا فقط رفضت نحو مئة مربية اطفال من شرق القدس الوصول بالمواصلات العامة الى اجتماع تعليمي عقد في متحف التراث في غرب المدينة. فقد خاف اهالي احدى المدارس في بيت حنينا من ارسال ابنائهم الى المدرسة ثنائية اللغة في القطمون للجلوس لامتحان البغروت هناك. وبالمقابل تمتنع المدارس اليهودية من التجول والزيارة في القدس. في محطات القطار الخفيف على طول طريق رقم 1 يستخدمها العرب اساسا، أما المحطات على طول شارع يافا فيستخدمها اليهود اساسا. اما الاختلاط فقل. هذه هي جغرافيا الخوف. وبعد أن تنطفئ موجة «الارهاب» سيعود الاختلاط، وستبقى الندوب. هكذا كان في الماضي وهكذا على ما يبدو سيكون هذه المرة. مريك شتيرن هو الآخر، كرجل يساري، يعارض مبادرة التقسيم/ الفصل التي طرحتها «الحركة لانقاذ القدس»، ويقول: «انا بالذات كرجل يساري اعارض جدا هذه المبادرات. هذا برأيي معيب جدا. صهيونية سياسية لاناس لا يعيشون في القدس، ولا يفهمون الوضع على الارض. فلا يمكن العودة هنا الى واقع المدينة المقسمة. الامكانية الوحيدة لهذه المدينة للازدهار هي من خلال الحياة المشتركة. وعلى الاطار السياسي للعيش المشترك يمكن أن نتجادل، أما المجال فيجب أن يبقى مفتوحا. فلا يمكن سحب الحقوق من 200 الف شخص. هذا ليس ممكنا لا قانونيا ولا أخلاقيا». وبالفعل، فان الغالبية الساحقة من سكان المدينة – 86 في المئة من اوساط العرب و75 في المئة من اوساط اليهود – لا يتذكرون على الاطلاق واقعا لمدينة مقسمة. فقد ولدوا في واقع المدينة الموحّدة. في الايام العادية تجري في المدينة أنسجة عديدة من الحياة الطبيعية والمشتركة واختلاطات من انواع مختلفة. وعلى مدى السنين خلقت هذه الشراكات مصالح اقتصادية وتعلقا متبادلا وكذا مسيرة «اسرلة» لبعض من عرب شرق المدينة. وكان لشبكة العلاقات هذه عمليا دور باعث على الاعتدال، منع  ولا يزال يمنع «التطرف» و»الارهاب». حتى اليوم فان الشراكات العديدة التي تواصل الوجود في الصحة، في المواصلات وفي التجارة، تمنع تطرف جماهير غفيرة والانجرار الى دائرة «الارهاب»، التي لا تضم اكثر من آلاف قليلة. ولولا التعلق المتبادل – كما يقدر مصدر أمني – لكان يمكن للواقع الامني ان يكون اشد باضعاف. «عمليات التعلق والاختلاط وان كانت تخلق مخاطر ومجالات اصابة، الا ان فيها ايضا تأثيراً اعتدالياً على الدوائر الواسعة من السكان». ويقول المصدر انه «يوجد لاسرائيل مصلحة في تشجيع مثل هذه الشراكات».