في محاولتهم لتفسير الحماية الأميركية لإسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، أشار متابعون اعتبروا ان إسرائيل كانت مجرد «حاملة طائرات أميركية» في الشرق الأوسط، ما وفر على أميركا عشرات مليارات الدولارات سنوياً منذ ذلك التاريخ، ففي حين كانت حاملة الطائرات تكلف نحو عشرة مليارات دولار سنوياً، قامت إسرائيل بوظيفة خمس حاملات من ذلك النوع، اي بما يقدر بخمسين مليار دولار سنوياً، في حين كانت المساعدات الأميركية لإسرائيل تبلغ بالمتوسط عشرة مليارات دولار فقط.
ورغم أن الصراع العربي الإسرائيلي خلال الحرب الباردة كان يعني صداماً مسلحاً بين الشرق والغرب، ورغم ان قوات دولية جاءت لتعمل في وظيفة فصل القوات بين إسرائيل ودول الجوار العربي، بناء على اتفاقيات الهدنة التي وقعتها مع لبنان وسورية، الأردن ومصر خلال عامي 1948،1949 حيث كانت القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة تراقب وقف إطلاق النار بين إسرائيل والدول العربية الأربع المجاورة لها، إلا أن وقف إطلاق النار صمد اقل من 20 عاماً، وسقط في حرب عام 67، وذهبت معه قوات الطوارئ الدولية دون رجعة، ولأكثر من سبب حرصت إسرائيل على عدم عودة تلك القوات منذ ذلك الحين، خاصة على الحدود بينها وبين الأرض الفلسطينية، اي تلك التي كانت بينها وبين الاردن شرقاً، أي الضفة الفلسطينية، وبينها وبين مصر غرباً في قطاع غزة.
وكانت إسرائيل مضطرة للموافقة على وجود القوات الدولية على الحدود بينها وبين مصر، حين كان قطاع غزة ضمن الحدود الأمنية لمصر، وبينها وبين الأردن حين كانت الضفة الغربية جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، أما بعد العام 67، ورغم ان إسرائيل عادت لقبول وجود قوات دولية بينها وبين مصر على حدود سيناء وبينها وبين لبنان (اليونيفيل) على حدود الجنوب اللبناني، إلا أنها ورغم مطالبة دولة فلسطين مراراً وتكراراً بإرسال الأمم المتحدة قوات فصل قوات لحماية الشعب الفلسطيني من حروب إسرائيل المتتالية وقتل عشرات آلاف الفلسطينيين، إلا ان إسرائيل «مسنودة» بالفيتو الأميركي رفضت وصدت هذا المطلب مراراً وتكراراً، وذلك حتى لا يعني ذلك قبولها بالخط الفاصل بينها وبين الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، كخط حدود دولي، وهو حتى في قوانينها، يعتبر خطاً فاصلاً لحدود سيادتها كدولة، وبين احتلالها لأرض الغير. فضلاً بالطبع عن الموقف الدولي بما فيه الأميركي الذي يعتبر كل متر احتلته إسرائيل منذ الخامس من حزيران 67 أرضاً محتلة، لا يجوز ضمها بل يتوجب عليها الانسحاب منها بأسرع وقت.
واذا كانت إسرائيل قد بلغت ذروة التطرف والعداء تجاه الجار الفلسطيني والمحيط العربي - المسلم، في ظل الحكومة الحالية، وحتى خلال العام الحالي الذي يوشك على الانتهاء، مع وجود اكثر إدارة أميركية منحازة لجانب إسرائيل بحكومتها المتطرفة، والتي حفظتها من «السقوط» بعد انفضاض كل العالم عن إسرائيل، خاصة الغرب الأوروبي، بما فيه بريطانيا وفرنسا، فإن ذلك يعني بان إسرائيل لن تحصل على أي شيء، لا تحصل عليه اليوم، فيما بعد او في قادم الأيام، وأن الزمن بات لصالح فلسطين، ولعل زاوية الرؤية المتمثلة في قراءة شكل الصراعات الكونية ما بعد الحرب الباردة، مقارنة بما كان عليه خلال تلك الحرب، يوضح بكل بساطة بأن «وظيفة» إسرائيل التي كانت تؤديها للولايات المتحدة، قد تغيرت تماماً، بينما جوقة اليمين الإسرائيلي المتطرف ذهبت بالاتجاه المعاكس تماماً، فبدلاً من أن تعزز شراكتها الاقتصادية مع أميركا، شقت طريقها المنفرد، نحو إسرائيل الكبرى، التي لا تعني شيئاً بالنسبة للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، بل على العكس تماماً، تصطدم بتلك المصالح، ولهذا، ورغم ان إدارة ترامب منحت حكومة نتنياهو فرصة أخيرة، تمثلت في تسعة أشهر متواصلة من أجل حسم الصراع عسكرياً، إلا انها اضطرت الى ان تتدخل لوقف الحرب، ومن ثم الانخراط كثيراً في تفاصيل الصراع، بشكل غير مسبوق.
وخلال الحرب الباردة، كانت إسرائيل تشن كل بضع سنوات حرباً على دول الجوار، خاصة دولتي مصر وسورية، اللتين تمثلان وبمنطق التاريخ في وحدتهما، ولو بحدها الأدنى، أي بالتحالف العسكري، الذي ظهر خلال حربي 1967، 1973، قوة إقليمية هائلة في الشرق الأوسط، ومثلتا رأس حربة حركة التحرر العربي المناهضة أولاً للاستعمار الغربي بصورته القديمة، البريطاني والفرنسي، او بصورته بعد ذلك المتمثلة بالتبعية لأميركا، وكانت مهمة إسرائيل ان تضع هاتين الدولتين، وما بعدهما العراق في حالة حرب دائمة، تستنزف قدرتهما على النمو الاقتصادي، ما دفع لاحقاً الرئيس أنور السادات، وبعد انتصار أكتوبر 73 مباشرة، للخروج من دوامة الحرب، بدفع ثمن غال لإسرائيل تمثل في الابقاء على قطاع غزة تحت الاحتلال، وفي اعادة منقوصة لسيناء منزوعة السلاح، وتقديم هدية لأميركا تمثلت في الخروج من دائرة التحالف مع السوفييت، والانضواء تحت المظلة الإقليمية الأميركية.
وفي السنوات الأخيرة للحرب الباردة، شجعت أميركا وإسرائيل على تحويل الخلاف الحدودي التاريخي بين العراق وإيران، الى حرب ضروس بينهما، بهدف تدمير قوتيهما معاً، توطئة لإدخالهما بيت الطاعة الأميركي معاً، لكن ما ان توقفت تلك الحرب عشية انتهاء الحرب الباردة، حتى سارعت إسرائيل بالدفع للتخلص من نظام صدام حسين، وكان ذلك أول الطريق الطويل، لإزالة كل الأنظمة العربية المعادية لأميركا وإسرائيل في المنطقة، وقد شمل هذا بشكل أساسي نظامي معمر القذافي في ليبيا وبشار الأسد في سورية، فيما سُمي بالربيع العربي، والذي تضمن ما هو أخطر، نقصد تدمير المجتمعات العربية من الداخل، وتحويلها الى عبء على شعوبها، عبء اقتصادي وسياسي ونفسي، بحيث تحتاج تلك الشعوب الى سنوات لمداواة الجراح، والتعافي، تكون إسرائيل خلال تلك السنوات قد تجنبت اي عمل عدائي من المحيط العربي برمته، وتكون هي قد تقدمت كثيراً على أصعدة النمو الاقتصادي والعلمي وحتى العسكري، ولهذا بدأت تفكر فيما هو أبعد من مجرد ترسيخ دولتها المعترف بها أممياً.
وحقيقة الأمر أن عراب «إسرائيل الكبرى» المتجاوزة لوظيفة حاملة الطائرات الأميركية في الشرق الأوسط، او الدولة التي رآها الغرب حلاً للمسألة اليهودية التي ظهرت في أوروبا، ووصلت ذروتها في «الهولوكوست النازي»، كان بنيامين نتنياهو، الذي قطع الطريق عام 1996 على حل الدولتين بناء على أوسلو، ورغم انه اضطر الى اتفاق «واي ريفر» والذي كان سبباً في سقوطه عام 1999، إلا انه سرعان ما عاد بعد سنوات من انتقال الحكم من اليسار الى اليمين، بدءاً بآخر رئيس حكومة يساري، وكان يمينياً في اليسار أو صقرياً في حزب العمل، نقصد اهود باراك، مروراً بحكومات ارئيل شارون، اهود أولمرت وتسيفي ليفني، عودة اليه عام 2009، حتى الآن، مع عدم أهمية عام ونصف تولى فيها نفتالي بينيت ويائير لابيد رئاسة الحكومة خلال عامي 2021_2022.
وخلال هذه السنوات الطويلة، لم يكتف نتنياهو بوقف التفاوض تماماً مع (م ت ف) ومنع تحويل السلطة الى دولة وذلك منذ عام 2014، بل عزز التحول داخل المجتمع الإسرائيلي، بنقله من اليمين التقليدي، داخل إسرائيل 1948، الى اليمين المتطرف المستند للقاعدة الانتخابية للمستوطنين في الضفة الغربية، وبعد ان ادخل بينيت الذي صار رئيساً للحكومة عام 2021، عاد العام 2022 لإدخال إيتمار بن غفير المقيم في مستوطنة كريات اربع بالخليل، وبتسلئيل سموتريتش المقيم في مستوطنة كدوميم شرق قلقيلية، وطوال فترة الحكومة الحالية، كان واضحاً الطريق الذي قاد فيه هذان الفاشيان ومعهما جوقة اليمين الليكودي إسرائيل، الى حرب الإبادة الجماعية، والى شن حرب إقليمية ضد 7 دول في الشرق الأوسط، مع حرب سياسية ودبلوماسية مع كل العالم بما في ذلك الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، وقادة الغرب الأوروبي، بمن فيهم الرئيس الفرنسي، ورؤساء وزارات ووزراء بريطانيا وإسبانيا وإيرلندا، وحتى شخصيات أميركية لم تسلم من تبعات الحرب العالمية الإسرائيلية!
بقي آخر معاقل هذه العدوانية الإسرائيلية، ترامب، والذي يقود منذ أكثر من شهر، أي منذ أواخر أيلول الماضي طريقاً مفارقاً للحرب التي ما زال يريدها نتنياهو، وتفاصيل الخلاف في تزايد مستمر ومتتابع، ويتضح ذلك بالتلازم مع تزايد صداقات ترامب مع قادة الشرق الأوسط الآخرين، حيث لم يعد نتنياهو صديقه الوحيد، ويشمل هذا الرئيس التركي أردوغان، والأمير القطري تميم، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، كذلك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وأخيراً الرئيس السوري أحمد الشرع، ولعل التحول داخل أميركا، بعد المنعطف المتمثل بفوز زهران ممداني بعمودية نيويورك، يؤكد بأن إسرائيل سترضخ لعالم ما بعد الحرب الباردة، بالانكفاء لداخل حدود عام 48، وقبول حل الدولتين.
اقتراح مصري لحل قضية مقاتلي حماس المحاصرين برفح
06 نوفمبر 2025
