قد لا يتمكن عمدة نيويورك الجديد، زهران ممداني، من تحقيق الوعود الكبيرة التي قدمها لسكان المدينة، لكن مجرد فوزه في زمن ترامب كان حدثاً ملفتاً. لقد تم اعتبار الأمر تحدياً لسياسات الرئيس الأميركي الأكثر جدلاً، بل إن المدينة الأهم في الولايات المتحدة، وربما في العالم المعاصر، صفعت ترامب بقوة وهي تدير ظهرها له. تم تصوير الأمر أنه منافسة بين ترامب والشاب المهاجر الذي يريد أن يحكم جوهرة المدن الأميركية، خاصة أن ترامب شن حرباً ضروساً على المهاجرين شملت التضييق عليهم وإيقاف إجراءات منحهم الأوراق اللازمة. وفيما كان ترامب مشغولاً بعبثه في السياسة الدولية متنقلاً بين الشرق الأوسط والصين، وموهماً نفسه بإنجازاته الكبيرة في صنع السلام حتى بين دول غير متحاربة، كان الشاب المنحدر من أصول هندية يشق طريقه بثبات لبيت البلدية. ورغم كل الجهود التي بذلها اليمين ورجالات المال من أجل منع وقوع الكارثة، إلا أنها وقعت. وفيما لا يمكن اعتبار الأمر أكثر من مجرد انتخابات عادية يفوز فيها شخص غير متوقع صعوده بهذه السرعة، وهذه من سمات الديمقراطية، إلا أن وجود ترامب في البيت الأبيض هو ما جعل من نجاح ممداني حدثاً غير عادي، بل للحظة بات الحدث الأكثر أهمية في العالم، وبدا الأمر أن ترامب خسر الانتخابات مقابل شاب أفلت من قبضة سياسات الهجرة التي كان الرجل الأبيض يطبقها بحق الباحثين عن الحلم الأميركي. بل إن ترامب، الذي يحب الاستعراض ويستهويه النقاش والجدل، علّق على خسارة منافسي ممداني بأنه لو تم وضع صورته واسمه في دعاياتهم لنجحوا.
ولكن كل هذا النقاش وتلك الشعارات ليست إلا تحليلاً لما جرى ولا علاقة لها ربما بحقيقة فوز العمدة الجديد، إذ إن الناخبين لم يذهبوا لصناديق الاقتراع من أجل تحدى ترامب أو الإطاحة بمرشحه،
فالشخص الوحيد حقيقة الذي نافس ممداني حتى لم يكن جمهورياً بل كان مستقلاً انتمى طول حياته للحزب الديمقراطي، فمرشح الحزب الجمهوري لم يحصل إلا على نسبة ضئيلة لكي ينافس بها ممداني. ما أقوله: إن الناس لم تنتخب ممداني لأنه يكره ترامب أو لأنه قال الكثير من الكلام بحقه، أو لأنه قال صراحة إنه سيعتقل نتنياهو لو جاء إلى المدينة، بل انتخبوه لأنهم كانوا يبحثون عن الرجل الأفضل لقيادة مدينتهم. ممداني كمهاجر، وكشاب يعرف صعوبة الحياة في مدينة بحجم نيويورك، خاطب الناس باللغة التي يفهمونها، لغة الهموم وعبء الحياة، لغة الضرائب وإيجارات البيوت، لغة المواصلات والطرق، لغة فرص العمل وتعليم الأطفال في المدارس. لم يلجأ للشعارات التي لا يمكن ترجمتها، ولم يستخدم مصطلحات يصعب عليهم فهمها، بل خاطبهم وفق احتياجاتهم وقال: إنه سيعمل من أجل تحسين الحياة في المدينة. صحيح أنه سيكون من الصعب عليه تحقيق وعوده، خاصة مثلاً مجانية المواصلات وتخفيض الإيجارات وغير ذلك، إلا أنه نجح في العزف على وتر الاحتياج الحقيقي للناس. ومع ذلك أيضاً فإنه لا يمكن إغفال قوة مواقفه السياسة ومدى تأثيرها على شرائح المهاجرين، خاصة موقفه من حرب غزة التي قال عنها بلا تردد إبادة، لأن مثل هذه المواقف قالت للكثير من الناخبين المترددين إنهم أمام شخص جريء وقوي، هم بحاجة له.
ومع كل ما يمكن أن يقال عن أميركا، فإنه فقط هناك يمكن لشاب اكتسب الجنسية قبل سنوات أن يصبح عمدة أهم مدينة في البلاد. وهي نفس الإمكانية التي تجعل رئيساً أثار قدراً كبيراً من الخلاف والشقاق في المجتمع مثل ترامب، يعود للحكم وبقوة، وهو نفس القدر الذي يجعل طفلاً ولد لأب مهاجر مثل باراك أوباما يصبح رئيساً للبلاد. لا يحب الناس أميركا كثيراً، لكنهم يعرفون قوة الحلم الأميركي وقدرة السياسة الأميركية، وليس الساسة، على التجدد. قوة الديمقراطية تكمن في تساوي فرص فوز كل المواطنين إلى أن يتم اختيار أحدهم، ولكن هذا الاختيار يعني أنه يجب أن يعمل بقوة من أجل أن يفوز مرة أخرى. أما من لم يحالفه الحظ، فيعرف أن ثمة فرصة قادمة سيفوز فيها إذا قدم للناخب برامج أكثر جاذبية. وعليه، فإن خيارات المواطنين عادة في الديمقراطيات المستقرة ترتبط باحتياجاتهم، فيما يظل دور بسيط للعاطفة لدى البعض لكنه لا يكون العنصر الحاسم في خياراتهم. لعل أهم مرجع أكاديمي لتدريس الديمقراطية هو كتاب المفكر الفرنسي توكفييل بعنوان «الديمقراطية في أميركا»، الذي كتبه إثر زيارته للبلاد في القرن التاسع عشر. لم يتمكن ابن الثورة الفرنسية من إخفاء إعجابه بطريقة إدارة الحياة اليومية في المستوطنات الأميركية بدءاً من الكنيسة ومروراً بهيئات البلدات والمدن، وصولاً للكونغرس.
مرة أخرى لم يسأل الناس عن دين ولا عن لون عمدتهم، سألوا عن برامجه. لم ينتخبوه لأنه مسلم ولا لأنه يكره ترامب. طبعاً لصدمة الإسلاميين العرب، فإن الرجل شيعي. مرة أخرى مثل تلك الأسئلة حول الدين واللون أسئلة غير ديمقراطية.
وحين يتعلق الأمر بالديمقراطية، فإن سؤال المواطنة يظهر بقوة لأن الإجابة عنه تحدد قوة ونجاعة العملية الديمقراطية. ولعل الشيء الذي يمكن اعتباره سابع بل مليون مستحيل في منطقتنا العربية هو أن يصبح مهاجر من بلد آخر رئيساً لبلدية قرية صغيرة ناهيك عن مدينة كبيرة، حتى لو عاش في تلك القرية خمسين سنة. لا أحد يفهم منطق الكثير من الدول العربية التي يعيش فيها مغتربون من دول عربية أخرى، يقدمون خدمات جليلة في التعليم والاقتصاد والمعرفة ولا يحق لهم حتى شراء بيت. في عالمنا العربي، لا يمكن لك أن تصبح عضو برلمان في بلد عربي حتى إن كنت ولدت فيه وعشت كل حياتك فيه إن لم يكن أجدادك وأجداد أجدادك من ذلك البلد. ربما الاستثناء الوحيد هو الحالة الفلسطينية التي سمحت مثلاً للمناضلين العرب الذين التحقوا بالثورة وقاتلوا في صفوفها أن يشغلوا مواقع سيادية وتشريعية.
ومع قصر عمر فكرة الدولة الوطنية والإمارة والمملكة وكل نتائج سايكس بيكو، وبالتالي فكرة الحدود، فإن فكرة المواطنة المرتبطة بالحدود تبدو سخيفة؛ فهي تعكس سوء فهم لطبيعة النظام السياسي الذي يجب أن يتأسس على فكرة الدولة الوطنية. والمؤكد أننا في حالتنا العربية لن نشهد صعود ممداني أو أي شخص قادر على تقديم إجابات حتى لو كانت حالمة، حول هموم الناس.
هل فوز، ممداني غزوٌ إسلامي لنيويورك؟!
12 نوفمبر 2025
