عن دور المثقف والسياسي المتقاعد

تنزيل (13).jpg
حجم الخط

الكاتب: عاطف أبو سيف


 

بين فينة وأُخرى ينبري نشطاء وكتّاب وسياسيون متقاعدون للهجوم على القيادة الفلسطينية وعلى المشروع الوطني، وينصّبون أنفسهم حراساً على مستقبل فلسطين وشعبها دون وجه حق.
الأسبوع الماضي، وفي لقاء مع رباب المهدي، استخدم الدكتور رشيد الخالدي عبارات وأوصافاً لا يمكن أن تصدر عن عالم وباحث في التعبير عن خلافه السياسي، كما ظهر مرة أخرى وزير الخارجية الأردني الأسبق وسفيرها الأسبق في إسرائيل، مروان المعشر، ليتهجم على الرئيس محمود عباس وعلى نائبه حسين الشيخ، وينتقد معالجات السلطة الوطنية للإصلاح. وفي الحالتين، فإن المدخل الأسهل لإثارة نقاش يتمثل بالهجوم على المشروع الوطني الفلسطيني وقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية. وبين خفة المثقف الذي يجيد التوصيف القائم على الاستعلاء على الآخرين، وبين نزق السياسي حين يتقاعد ويعمل في مؤسسة غير ربحية، يتم تضليل الجمهور بعبارات كبيرة مغلّفة بوهم المعرفة وهيبة العلم والخبرة.
وعلى طوال السنين، تعرضت القيادة الفلسطينية لمثل هذه الادعاءات والاتهامات من مثقفين وأكاديميين انشغلوا في شبابهم في بناء سيرة مهنية علمية رصينة، فيما كان من ينتقدونهم، مثل الرئيس ونائبه، يمضون وقتهم في النضال ومعارك الثورة ملاحقين من الاحتلال، وربما أن هؤلاء لا يجرؤون على انتقاد مسؤول عربي يعيشون في كنفه، أو يترددون على بلاده، بغية الجوائز والتقديرات وغير ذلك. فرشيد الخالدي استخدم عبارات، وكال اتهامات تنافي الحقيقة وتجافي الواقع، كما قام المعشر الخبير في «نهج الاعتدال العربي» (وهذا عنوان أحد كتبه) لا الخبير في تحرير فلسطين، بالتشكيك بشرعية القيادة الفلسطينية، وهي شرعية لا تحتاج مصادقة من المعشر ولا من مركز كارنيجي الأميركي الذي يعمل فيه.
ومع التقدير الذي يمكن أن يكنّه المرء لمثقف وأكاديمي مثل رشيد الخالدي، فإن الانزلاق في مثل هذه اللغة التخوينية والسطحية في التعبير عن الخلاف السياسي لا يمتّ بِصلة لعالم المعرفة والتحليل العلمي، الذي أسس عليه الخالدي سمعته كأكاديمي ومثقف حر.
إن المرء حين يأسر نفسه في قوالب فكرية جامدة لا يعود حراً ولا يعود فكره علمياً. فالأصولية ليست أصولية التدين، بل إن جوهر الأصولية ينطبق كثيراً على مثل هذه الآراء التي لا ترى غير مواقفها، ولا تستطيع أن تستوعب أن العالم والآخرين لهم رأي آخر.
فالقيادة الفلسطينية التي تحدث عنها الخالدي هي ذات القيادة التي عمل معها سابقاً خاصة في مؤتمر مدريد مستشاراً، وهي القيادة التي تمثل التنظيم الفلسطيني الأكبر والأكثر حضوراً في الشارع الفلسطيني. ورغم بعض الأفكار الجيدة التي قدمها الخالدي في برودكاست الدكتور رباب المهدي الباحثة المصرية الجادة (التي كانت قد حاورتني في ندوتي بالجامعة الأميركية)، إلا أن الزبدة تلاشت أمام هذه التعليقات.
واضح أن الناس تتناسي أن قيادة السلطة هي قيادة حركة «فتح»، التي في أسوأ حالتها ستحوز على خمسين بالمائة أو أكثر من أصوات الناخبين الفلسطينيين في داخل الوطن والشتات. يبدو أننا لا نتذكر أن «فتح» حتى حين خسرت الانتخابات التشريعية أمام «حماس» عام 2006، لأنها دفعت ثمن بناء السلطة الوطنية وأخطاء مرحلة التأسيس، حصلت على 42 بالمائة من أصوات الناخبين في القائمة النسبية. هذه «فتح» حين تخسر. وعليه، فإن قيادة السلطة و»فتح» واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير يكتسبون شرعيتهم ليس من تصنيفات أكاديمية ولا جلسات نقاش فكري عاجي، ولا مراجعات الصالونات السياسية، ولا استطلاعات رأي ممولة وموجهة، بل من حقائق ميدانية ومن التفاف شعبيّ حول الحركة الوطنية، وتكمن بأنهم قادة فتحاويون منتخبون من قواعد «فتح» ومؤتمراتها التنظيمية ويمثلون خليتها الأولى. بل إنهم أمضوا حياتهم في القتال والنضال ضد الاحتلال، وفي زنازين التعذيب والتحقيق، وهي الخبرة التي أعطتهم شرعية قيادة الشعب الفلسطيني.
المثقف في «خفّته»، والسياسي المتقاعد بترفه، يستمتعون بالكلام من أجل الكلام، فالأول يظن أن له سطوة على وعي الناس وهو ادعاء تنفيه الحقائق، فيما يمارس الثاني التنفيس عن عجزه بعد أن خرج عن الخدمة بإطلاق الأحكام العشوائية، حتى يصل به الأمر أن يتحدث باسم الشعب، وينصّب نفسه حاكماً على أخلاق الآخرين. وكلاهما يعيش في وهم منبعه والبحث المحموم عن الوجود والحضور. فيما يكمن دور المثقف في صناعة الوعي وليس بتوهّم سطوته على الناس، في إثارة الجدل حول الأفكار والبرامج لا في إطلاق أحكام تنافي منطق الوعي والفكر، كما يجدر بالسياسي حين يتقاعد أن يحاكم مرحلة عمله ويقدم قراءة نقدية لما قام به ولتجربته، لا أن يحاكم الآخرين.
إن الساسة الحقيقيين بعد أن يتقاعدوا يقدمون للناس عصارة خبرتهم عبر تقييم تجربتهم ومحاكمة ذاتهم أولاً، لا بتنصيب أنفسهم حكاماً وجلادين. حتى لا يجوز للسياسي بعد أن يعمل كل تلك الفترة وزيراً للخارجية وسفيراً، مثل المعشر، أن يقوم بالتحليل السياسي.. ثمة احترام للتاريخ الشخصي على الأقل يجب ألا يغيب. ولكن مرة أخرى، فإن نرجسية المثقف الذي يرى في كل كتاب يقرؤه مرآة يرى فيها نفسه، والسياسي الذي لم تعد الكاميرات تنتصب أمامه، يندفعان بقوة لغرف حفنة رمال لذرّها في وجوه الآخرين. اللهم احمنا من هذه الرمال، واحفظ لنا فقط «رمال» غزة.