مع تزايد عمليات القرصنة الإلكترونية والتجسس على الدول، بدأت تتكشف شيئاً فشيئاً حروب خفية وظاهرة إلى العيان، لكن ساحتها الرئيسية ليست في الأرض وإنما في الفضاء، تحت الانطباع بأن من يسيطر على الفضاء يسيطر على الأرض.
في حقيقة الأمر هذا التنافس على الفضاء بدأ مبكراً بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً، بين القوتين الأعظم آنذاك الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، غير أن تفكك الأول وإعلان القطبية الأحادية جعل من أميركا الدولة الأكثر تفوقاً في غزو الفضاء.
يحمل التنافس على الفضاء مزايا وفوائد كثيرة جداً، إذ يعني في بداية الأمر أن من يسيطر على هذا المجال الجوي يمتلك التكنولوجيا الحديثة التي تجعله يقرر مصير الكرة الأرضية، لأن غزو الفضاء يعني مراقبة الأرض وتتبع تفاصيلها وتقديم خدمات الإنترنت وأنظمة الاتصالات فائقة السرعة بفوائد مادية.
الفضاء طافح عن بكرة أبيه بالأقمار الصناعية التي تدور تحديداً في المدار الأرضي المنخفض والمتوسط، عدا عن محطة الفضاء الدولية التي تشارك فيها دول كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا وكندا واليابان، ومحطة «تيانجونغ» الصينية.
هناك ما يقرب من 12 ألف قمر صناعي يتنوع بين تجاري عسكري وبحثي، وشركة «starlink» الأميركية تمتلك وحدها أكثر من 6750 قمراً صناعياً نشطاً في المدار المنخفض، مرتبطة بمشروعات الانترنت الفضائي الكبرى حسب موقع الشركة الأم.
في الحقيقة يمكن القول إن ما يحدث في الأرض من تنافس بين القوى العالمية هو نفسه ما يحدث في السماء، إذ على سبيل المثال عكست الحرب بين روسيا وأوكرانيا حاجة الدول لتعظيم حضورها في المجال الفضائي، وبرزت اتفاقيات ثنائية وتخطيطات دولية للاتجاه نحو الفضاء.
بسبب تفوق روسيا الفضائي والتجسس على أنظمة الاتصالات والتشويش واسع النطاق على إشارات نظام تحديد المواقع «GPS» وهجمات سيبرانية طالت بنى تحتية حيوية مرتبطة بالاتصالات الفضائية على كييف وبعض دول أوروبا الغربية، سعت دولة مثل فرنسا للإعلان عن خطة للدخول بقوة في مجال التسلح الفضائي.
الرئيس الفرنسي ماكرون أعلن قبل شهر تقريباً عن تخصيص حوالي 5 مليارات دولار لتحصين الأقمار الصناعية الفرنسية وتعزيز الاتصالات العسكرية ومراقبة الأنشطة العدائية في المدار، في حين تستعد الصين لإرسال جيش من الأقمار الصناعية في مدار الأرض.
التنافس الدولي على الفضاء لا يتعلق فقط بامتلاك أكبر عدد من الأقمار الصناعية والتجول على سطح القمر والدوران حوله، وإنما يتجاوزه إلى مسألة القدرة على التخريب والتشويش في السماء، مثل تطوير أنظمة تكنولوجية يمكنها تعطيل عمل الأقمار الصناعية سواء من الأرض أو في الجو.
كذلك هناك موضوع مهم جداً مرتبط بالقدرة على إسقاط الأقمار الصناعية من الأرض، وهذا يعني تطوير أسلحة وصواريخ يمكنها إصابة الهدف بشكل مباشر، وهو جزء من التسلح الفضائي العسكري الذي تسعى إليه الدول المتنافسة.
ليس هناك من شك أن الحروب ستنتقل إلى الفضاء، وليس غريباً أن نسمع عن بدايات التنقيب القمري لاستخراج موارده والاستفادة منها، وكذلك الحال بالنسبة إلى إرسال مهمات استطلاع إلى كواكب تتجاوز مدار الأرض وأخرى رحلات ترفيهية إلى القمر وغيره.
أهمية الفضاء تعكس حجم الدول التي ترغب الانضمام إلى هذا التنافس، إذ كانت الحرب الباردة للغزو الفضائي مقتصرة على الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي آنذاك، ثم دخلت بريطانيا وفرنسا والصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية وإسرائيل.
ومن المحتمل أن تدخل دول أخرى هذه الساحة من المواجهة، مدفوعة بالرغبة في التنافس وتعزيز حضورها الدولي كما هو الحال مع البرازيل وتركيا وإيران والسعودية، لكن يبقى تأثيرها محدوداً قياساً بالدول الكبرى التي تمتلك المعرفة والحصة الأكبر في السوق الفضائي.
في هذا الإطار يلحظ الصعود الصيني الصاروخي في مسألة الغزو الفضائي، وهذا يعكس جدية بكين في امتلاك المعرفة المتقدمة لتغيير شكل النظام العالمي، إذ تمتلك نظام ملاحة فضائية مستقل عن «GPS» الأميركي العالمي، ولديها إنترنت خاص بها يعرف بـ»الجدار الناري العظيم»، وهو موازٍ للإنترنت العالمي.
الصين تريد أن تكون لاعباً رئيسياً في الساحتين الدولية الأرضية والفضائية، وعلى الأرجح أنها ستتفوق على روسيا في المجال الفضائي، وستقترب كثيراً من الولايات المتحدة في هذا التنافس وقد تتفوق عليها خلال العقدين المقبلين والله أعلم.
نتنياهو "الفريد"..من فاسد جنائي إلى فاسد سياسي!
04 ديسمبر 2025
