يستحق البيان الذي صدر عن الدورة السادسة عشرة للمجلس الثوري لحركة فتح، اهتماماً أكثر عمقاً وجدية من قبل المستويات السياسية والنخب ووسائل الإعلام، ذلك أن ما تضمنه البيان، يتجاوز حدود الخبر، الذي يشغل الإعلام ليوم أو يومين، أو ردود فعل سريعة من قبل فصيل ما على هذه النقطة أو تلك.
عندما يجتمع المجلس الثوري للحركة، التي رغم كل ما تعاني منه، تواصل قيادتها للعمل الوطني الفلسطيني، فإن ما يتخذه من قرارات، يحدد الآفاق التي يتجه نحوها المشهد الفلسطيني، ومشهد الصراع مع الاحتلال خلال مرحلة مقبلة سواء كان ذلك في الاتجاه الإيجابي كما يراه البعض، أو السلبي كما يراه بعض آخر.
في مثل هذا الشهر من العام الماضي كان المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية قد عقد اجتماعاً تاريخياً، اتخذ خلاله جملة من القرارات المهمة التي تتصل بإعادة النظر في طبيعة الشروط، التي تعمل في ظلها السلطة الوطنية بناء على اتفاقية أوسلو، ما يشكل بدوره تغييراً ضرورياً في وظيفة السلطة، وفي طبيعتها.
وفي أكثر من اجتماع عقدته اللجنة التنفيذية للمنظمة، جرى التأكيد على قرارات المجلس المركزي، التي وفرت مناخاً وطنياً عاماً، لم يبق فصيل أو جماعة أو مواطن إلاّ وأخذ يطالب بتنفيذ تلك القرارات.
الآن وقد اكتملت الدائرة، حيث حظيت قرارات المركزي بموافقة جماعية، من قبل المؤسسات الوطنية، والفصائل، بات من الضروري أن تنخرط القوى السياسية والنخب في حوار عميق أولاً للاتفاق على آليات منضبطة لجدول زمني لوضع القرارات موضع التنفيذ، والاتفاق على استراتيجية وطنية جديدة لقيادة الصراع في المرحلة المقبلة.
نفهم أن الانتقال إلى مرحلة أخرى مختلفة جذرياً عن المرحلة السابقة يحتاج إلى ترو، وربما مواصلة عملية ترويض الأطراف الأخرى إسرائيلياً وعربياً ودولياً، ولكن ذلك ينبغي أن يتم في إطار وطني متفق عليه، حتى لا تعود مثل هذه العملية سبباً لتأجيج التصريحات السلبية وتبادل الاتهامات.
ونفهم أيضاً، أنه في هذا السياق، يأتي ترحيب القيادة الفلسطينية بمبادرة فرنسا، رغم أن هذه المبادرة، وأية مبادرة أخرى في ظل الوقائع على الأرض، وما شهدته المرحلة السابقة من متغيرات خطيرة، لا تلبي الحد الأدنى من متطلبات الحقوق والسياسة الفلسطينية. تكون هذه الموافقة، استمراراً لسياسة سحب الذرائع، واستناداً إلى تقييم مسبق وموضوعي للسياسة الإسرائيلية التي سترفض هذه المبادرة وتسعى لتعطيلها، ما يجعلها أمام المجتمع الدولي تتحمل المسؤولية عن إفشال الجهود والمبادرات الدولية، حتى حين تأتي من أقرب حلفائها. بيان الثوري، قدم تشخيصاً موضوعياً جريئاً لطبيعة الاحتلال، العنصرية، العدوانية والتوسعية، تشخيصا تقرأ فيه بوضوح أن العلاقات الفلسطينية مع الاحتلا، تنتقل إلى المربع الأول، مربع الصراع المفتوح، وفي الجوهر مربع الصراع الوجودي بعد أن نسفت إسرائيل ممكنات ومقومات الصراع الحدودي.
العالم اليوم ليس مستعداً لتقبل هذه الحقيقة، رغم أنه بات على قناعة راسخة بأن إسرائيل هي المسؤولة وحدها عن نسف مقومات التوصل إلى حدود لها تسمح بقيام واستيعاب الفلسطينيين في دولة على 22% من أراضي فلسطين التاريخية، وهي الطريقة الأمثل لضمان أمن إسرائيل لوقت طويل، غير أن وقائع الصراع على الأرض ومآلاته من شأنها أن تجبر الكل على التعاطي مع هذه الوقائع. لا أظن أن الفلسطينيين يختلفون على التشخيص الذي قدمه الثوري الذي اتبع هذا التشخيص بملامح ومفردات استراتيجية فلسطينية غير مكتملة، لكنها تشكل أساساً لتغيير جذري واسع في الفكر السياسي الفلسطيني. لا لحلول مؤقتة، ولا لدولة مؤقتة ولا لنظام سياسي إسرائيلي يقوم على التمييز ضد الفلسطينيين، وكأنهم أقلية تابعة فإذا كان هذا مرفوضاً، ومرفوضة مطلقاً فكرة الدولة اليهودية، وترفض إسرائيل دولتين لشعبين أو دولة ديمقراطية لقوميتين، فإن ما تبقى من سيناريوهات وحلول، لا يعني إلاّ شيئاً واحداً وهو الذهاب نحو الصراع المفتوح، وعلى كل الأرض.
السلطة الوطنية باقية، باعتبارها إنجازا تاريخيا وواحدة من معالم ومفردات الهوية الوطنية الفلسطينية والأساس المؤسسي الذي يتطور نحو أن تكون مؤسسة الدولة الفلسطينية تحت الاحتلال. من الواضح أن هذا الموقف يقدم رداً كفاحياً وصراعياً ضد الأصوات الإسرائيلية التي تطالب، أو تتوقع انهيار السلطة فالسلطة باقية، وفي موقع مختلف عما أرادته لها إسرائيل، وهي كما منظمة التحرير الفلسطينية التي ستتوصل في لاحق الأيام إلى قرار تعليق أو التراجع عن قرارها الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود طالما لا تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني.
لسنا بصدد استعراض كل قرارات الثوري، لكن ما تضمنه البيان الختامي، يفترض أن يوفر مناخاً إيجابياً، يشكل أساس الحديث عن مصالحة وطنية، تقوم على مبدأ النضال الجذري ضد الاحتلال. من الآن فصاعداً علينا أن ننتظر ممارسة وسلوكا سياسيا مختلفا من قبل كل الأطراف وأولها حركة فتح، والسلطة الوطنية، اللتان عليهما أن تترجما هذه القرارات، عبر مبادرات عملية ملموسة، وأن يستعد الجميع للمساهمة الفعالة في دفع استحقاقات هذه القرارات المهمة والخطيرة في الوقت ذاته.