انشغل عددٌ كبيرٌ من المحللين، خاصة الفلسطينيين، في صياغة أبرز التحليلات السياسية عقب اعتراف إسرائيل بجمهورية أرض الصومال يوم 26-12-2025. وقالوا: «يعود سبب الاعتراف إلى أن إسرائيل تسعى لتهجير الفلسطينيين إلى جمهورية أرض الصومال لتحل مشكلة غزة»!
هذا الاستنتاج السريع يعود إلى تكريس كثير من وسائل الإعلام، خاصة الإعلام الرقمي، على قضية تهجير الفلسطينيين، غير أن عدم دراسة واقع العلاقات الإسرائيلية الإفريقية دراسة بحثية كافية لاستخلاص العبر من التسلسل التاريخي لهذه العلاقات، هو السبب في ذلك التركيز، ويعود السبب كذلك إلى قلة خبرة كثيرين من الإعلاميين بتاريخ العلاقات العربية الإفريقية!
كما أن كثيرين لا يعرفون حقائق عن أرض الصومال، فهي ليست دولة صغيرة إذ تبلغ مساحتها حوالى 176,000 كم2، بالإضافة إلى أن عدد سكانها بلغ عام 2024 حوالى ستة ملايين ونصف المليون، وعاصمتها هرجيسا.
يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن هناك كثيرين من الإفريقيين لا يزالون ينظرون إلى العرب على أنهم نخاسو عبيد إفريقيا، أي أنهم تجار العبيد في العصور القديمة والوسطى، هؤلاء المحللون كذلك لا يعرفون سياسة إسرائيل وأهدافها في هذه القارة الثرية ذات التراث الحضاري والتجاري الكبير، وأن سياسة إسرائيل تتطلب أن يكون لها النفوذ الأقوى لأجل محاصرة دول العرب وإنهاكها سياسياً واقتصادياً!
تبلغ مساحة قارة إفريقيا حوالى 30 مليون كم2، كما أن سكانها يمثلون أكثر من 15% من سكان العالم، ولعل أهم مواقعها الجغرافية الإستراتيجية هي دولة القرن الإفريقي، وهي اليوم جمهورية أرض الصومال لأنها النافذة الأكثر قرباً على دول العرب، خاصة اليمن، فهي مهمة جغرافياً وعسكرياً وأمنياً بالدرجة الأولى لأنها تتحكم في مرور السفن التجارية! على هؤلاء المحللين أن يعودوا إلى تاريخ الحركة الصهيونية، عندما كان مقترح مشروع الدولة اليهودية في المؤتمر الصهيوني السادس عام 1903 هو تأسيس دولة يهودية في أوغندا الإفريقية!
كذلك لا بد من إعادة قراءة التاريخ لنرى كيف تمكنت دول العرب عقب حرب حزيران 1967 من استقطاب كثير من الدول الإفريقية إلى جانب الحق العربي الفلسطيني.. بفضل جهودهم الدبلوماسية في سبعينيات القرن الماضي حتى عام 1982م كانت ثمرة تلك الجهود أن سبع دول إفريقية قطعت علاقتها مع إسرائيل، وفي عام 1973م أصبح عدد الدول الإفريقية التي قطعت علاقتها مع إسرائيل اثنتين وأربعين دولة، واستمرت الجهود الدبلوماسية العربية إلى أن بلغت ذروتها عام 1975 عندما نجح السياسيون العرب في استصدار قرار أممي رقم 3379 باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية!
غير أن الدبلوماسية الإسرائيلية تمكنت من إلغاء القرار بعد مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين في أوسلو، بحجة انتهاء قضية فلسطين!
استعادتْ إسرائيلُ بعد اتفاقية طابا مع مصر 1979م، واتفاقية وادي عربة مع الأردن 1994م، وجودها وتغلغلها في إفريقيا، وأصبحت إسرائيلُ دولة ذات مكانة اقتصادية وعسكرية في قارة إفريقيا، وكان من نتيجة ذلك أن تمكنت إسرائيلُ من استعادة علاقتها مع حوالى أربعين دولة في إفريقيا، وأسهمت في تأسيس دولة جنوب السودان، وتمكنت من تهجير يهود الفلاشا من إثيوبيا في ثلاث موجات، في عملية موسى 1984 وعملية سبأ 1985 وعملية سليمان 1991، وقد جرى تهجير آلاف الفلاشا لأنهم ينتمون إلى قبيلة دان اليهودية المفقودة!
ولا يجب أن يغيب عن تحليلات السياسيين ملف سد النهضة الإثيوبي، وهو مصدر الحياة لإحدى عشرة دولة إفريقية، أبرزها مصر والسودان، وما يُشاع بأن خطة بناء السد كانت بمبادرة وتعاون إسرائيلي، لأن الهدف الرئيس هو خنق الدول العربية المعتمدة على مياه نهر النيل!
كذلك، فإن تقسيم السودان هو المخطط الأكثر خطورة، لأن دولة جنوب السودان هي بداية الشرارة لهذا المخطط الكبير، مخطط إسرائيل في قارة إفريقيا!
كما أن إسرائيل بارعة في تغليف سياستها بالشعارات الاقتصادية والسياسية، والحربية، فهي لا تزال المُصدِّر الرئيس لشركات الأمن الإفريقية، فهي المدرب المركزي ليس للجيوش فقط، بل هي أيضاً تمتلك شركات حماية المطارات والمقرات السياسية للأحزاب الإفريقية، وهي تجني الأرباح الطائلة من تصدير منتجات الأسلحة الإسرائيلية لعدد كبير من دول إفريقيا!
عندما اختطف أفراد من الجبهة الشعبية طائرة متجهة من تل أبيب إلى باريس، يوم 4-7-1976 وأنزلوها في أوغندا، وطلبوا إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، تمكنت إسرائيل من مهاجمة الطائرة على أرض مطار عنتيبي، قُتل في الحادث شقيق نتنياهو الأكبر، جوناثان!
هذه العملية أثّرت على مستوى العلاقات بين إسرائيل وكثير من الدول الإفريقية، لأن دولاً إفريقية عديدة أدركت أنها تحتاج إلى خبرة الإسرائيليين في التعامل مع اختطاف الطائرات، لذلك قامت بعض دول إفريقيا باستقدام مدربين إسرائيليين لحماية الطائرات، عبر شركات إسرائيلية!
ولا يجب أن يغيب عن المحللين أن جيش الصومال كان هو الجيش الثالث في القوة بعد الجيش المصري والنيجيري، وأن هذا الجيش اشتبك مع إثيوبيا وحقق انتصاراً كبيراً، لكن الصوماليين لم يستفيدوا من هذا الانتصار، بل أُجبروا من قبل روسيا وأميركا على أن يعودوا إلى الحدود المعترف بها دولياً، ولم تعد دولة الصومال الكبرى قائمة!
وتمكنت جمهورية أرض الصومال من الانفصال عن الصومال يوم 18-5-1991، وانتخب عبد الرحمن أحمد رئيساً لهذه الدولة في نفس العام، وجرى تشكيل برلمانَين، هما مجلس النواب ومجلس الشيوخ، ويتكون كل مجلس من اثنين وثمانين عضواً!
تُعتبر دولة أرض الصومال دولة مهمة جداً لإثيوبيا، لأنها المنفذ البحري الوحيد لها على ساحل خليج عدن! وهي تتحكم في باب المندب، وهي الأقرب إلى اليمن، وهذا مربط الفرس بالنسبة لإسرائيل!
أما صحف إسرائيل وسياسيوها فقد اعتبروا هذه الخطة مهمة جداً لإسرائيل، لأنها تمنحهم مزايا عديدة، وقد برز ذلك في كلمة نتنياهو بمناسبة الاعتراف بدولة أرض الصومال؛ حيث شكر على وجه الخصوص، جدعون ساعر وزير الخارجية، ثم أثنى على ديفيد برنياع رئيس «الموساد»، وهو يشير إلى دور الاثنين في تمهيد الاعتراف بهذه الدولة المهمة المقابلة تماماً لليمن، وكأن السفارة الإسرائيلية ستكون بمثابة قاعدة عسكرية لمواجهة الخطر الإيراني كما قال نتنياهو!
كذلك أوضح نتنياهو أن هذا الاعتراف يأتي في سياق الاتفاقيات الإبراهيمية، وهناك محللون إسرائيليون برروا الاعتراف بأن هناك قاعدة أميركية في دولة جيبوتي التي تحد جمهورية أرض الصومال من الشمال، وهذا المبرر يمنح إسرائيل الحق في الاعتراف!
ولم يُخفِ ديفيد ماكوفسكي الأهمية الأمنية لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والصومال، كما ورد في النشرة الصهيونية JNS يوم 27-12-2025، وقال وهو الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى: «إن أرض الصومال تواجه اليمن مباشرة، لذا يجب منع طائرات الحوثيين المسيّرة من الوصول لإسرائيل، وكذلك منع الصواريخ الموجهة ضدها».
لا تزال معظم صحف إسرائيل تغض الطرف عن إفشاء الأسرار حول هذا الاعتراف، هل هناك علاقة لأميركا بهذا الاعتراف؟ لا سيما أن دونالد ترامب أشار بوضوح قبل اعتراف إسرائيل بعشرة شهور، ففي شباط 2025 قال ترامب: «هناك متسعٌ للفلسطينيين في أرض الصومال».. وهذا بالتأكيد إفشاءٌ لأبرز الأسرار المُعدَّة في الكواليس، أي أن هناك تواطؤاً بين الدولتين، وقد يعني أن هذا الاعتراف الإسرائيلي سيكون مقدمة لاعتراف أميركي بعد فترة وجيزة بدولة أرض الصومال!
هذا الملف الجديد أثار شجباً عند كثير من الدول الإفريقية.. عند تركيا ومصر والسعودية، وبالأخص عند دولة الصومال!
عدَّدت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، في مقال للصحافي ليئور بن آري يوم 27-12-2025، المخاطر التي تواجه التجارة العالمية والآثار السياسية والحربية الناتجة عن إهمال ملف أرض الصومال، وأشار إلى أن إيران والحوثيين يتحكمون في 12% من التجارة الدولية، لأن ميناء بربرة الصومالي يبعد عن اليمن 250 كم!
ولا يجب أن ننسى أن وجود إسرائيل في باب المندب مهم لأميركا نفسها، لأنه يمنحها القوة في وجه الصين وروسيا، وهو يعني أن إسرائيل تقع في خط المواجهة العالمي الأول للدفاع عن المصالح الأميركية!
أردوغان: اعتراف إسرائيل بـ"أرض الصومال" غير شرعي ومرفوض
30 ديسمبر 2025
