تدوير قمامة (إسرائيل)

bfc6700698efb3d1d990277e408c1682
حجم الخط
 
نعم، وكما قال أحد المعلقين إلكترونيا، ليست القصة في سلوك(…)، بل في الذي يمسك السلسلة المعدنية، يمدها أو يقبضها عن (…).
وليست القصة في تصرفات شخص، ولقائه الفضائحي بسفير العدو الإسرائيلي، فليس عليه حرج، بل في أنه أوقع مستخدميه في الحرج المخزي، وجعل الأحذية تتساقط فوق رؤوسهم، وفشلت عملية تدوير قمامة إسرائيل، وثبت أن الشعب المصري ـ كما كان وسيظل ـ أعظم شعوب الأمة العربية عداء لإسرائيل، ولكل من يقترب منها، أو يمت لها بصلة ود وعمالة صريحة منحطة على طريقة مثل هذا الشخص.
وليست القصة في هجومه على جمال عبد الناصر، فهذه متلازمة نفسية طبيعية لا فكاك منها، فكل من يريد مودة إسرائيل لابد أن يهاجم عبد الناصر، وقد فعلها كل «التطبيعيين» الذين سقطوا، ولحقهم العار إلى يوم يبعثون، وكان طبيعيا أن يفعلها عكاشة أيضا، وبدون تخوف من عار يلحق به، وبلاهته مضرب الأمثال، وقد سبق أن وصف نفسه بنفسه، وعلى الهواء مباشرة، فقد وصف نفسه مرة بأنه «كذاب والله العظيم»، ثم وصف نفسه مرة أخرى بأنه «والله العظيم حمار»، وهذه إهانة فظيعة للحمير «والله العظيم»، فلم نسمع عن حمار خان وطنه، أو تباهى بجهله الخلقي. وأراد أن يهاجم جمال عبد الناصر، وأن يذكر له هزيمة 1967، فثبتت جهالته التي لا تبارى، وعدم إدراكه لبديهيات، يعرفها تلاميذ مراحل التعليم الابتدائي في أبعد نجع وأصغرعزبة، وقال ـ في تصريحات مسجلة ـ إن عبد الناصر ترك لإسرائيل 2 إلى 3 ملايين كيلو متر مربع، قصد بها ـ طبعا ـ سيناء التي جرى احتلالها في 1967، وألهمه جهله بما ذهب إليه، وجعل مساحة سيناء 3 ملايين كيلو متر مربع، بينما مساحة سيناء ـ بالتحديد ـ 61 ألف كيلو متر مربع، وهي تساوى نحو 6٪ من مساحة مصر كلها، فيما مساحة مصر الكلية لا تزيد عن مليون كيلو متر مربع، وهذه معارف بديهية لم تصل لعلمه وهو يصف نفسه بالدكتور، ويقول لك إنه حصل على شهادة دكتوراه من جامعة أمريكية (!).
وبدون الدخول في تفاصيل معلومة عن شخص هو أصغر من أن يذكر، فقد فشل الذين استخدموه في جس نبض الشعب المصري، وحلت عليهم لعنة «الضرب بالحذاء»، وأدركوا أن مصيرهم الحتمي هو الضرب بالرصاص بعد الضرب بالأحذية، فقد راهنت إسرائيل، وراهنوا معها، على اختراق العمق الشعبي المصري، وعلى تصوير محبة مفتعلة لكيان الاغتصاب الإسرائيلي في مصر، وصوروا زيارة «المعتوه» كأنها إرادة شعبية، وبدعوى حصوله على بضعة آلاف صوت انتخابي، بينما عزفت عشرات ملايين الشعب المصري عن الذهاب لصناديق الانتخابات، التي فاز فيها الذين فازوا بعشرة بالمئة من أصوات الناخبين، حسب التقدير الرسمي المعلن، وهي نسبة تزداد هزالا على هزالها مع معرفة ما جرى، ومع ثقل تأثير عمليات شراء الناخبين والتصويت الجماعي والنقل الجماعي، وهو ما يعني أن نسبة التصويت الاختياري لم تزد في حقيقتها عن خمسة بالمئة من إجمالي الناخبين، أي أننا بصدد «ميني برلمان» انتخبه «ميني شعب»، أو ـ بالدقة ـ «ميكرو برلمان» انتخبه «ميكرو شعب»، وبالطبع لم يجرؤ مرشح على طرح قضية التطبيع مع إسرائيل في الانتخابات، ولا جرؤ هو نفسه، ولو فعلها أحد ما حصل على صوت انتخابي واحد، وهو ما يفسر الرعب الذي انتاب «الميني برلمان» مع سلوك عكاشة، وتركيزهم على «واقعة الحذاء» بأكثر من «واقعة التطبيع» نفسها، وادعاء الأدب والتهذيب من نواب وقعوا في المأزق، خشوا أن يعاقبوه، وهم أصدقاؤه، وابتعدوا في اللحظة نفسها عنه، كما لو كان مصابا بجرب مفاجئ، فهم يخشون عقاب الشعب المصري، وقد أحرق الشعب المصري سفارة إسرائيل على نيل الجيزة، وهم يخشون أن يحرقهم، وهو ما كان سببا في تردد تائه، وإلى أن صدرت إليهم الأوامر صارمة باترة، وكان إسقاط عضويته هو الحل الوحيد. 
ورفض التطبيع ليس موقفا نفسيا ولا عصابيا كما كان يشيع الرئيس المقتول أنور السادات، ولو كان موقفا نفسيا لذهب أثره مع تقادم الزمن، وهو ما لم يحدث ولن يحدث أبدا، فالقصة ليست خلافا محتملا في الرأي ولا في السياسة، بل إنه خلاف في الوطن والحقيقة، ودعك هنا من «بهلوانيات» عكاشة، والذين سبقوه إلى سكة جرائم التطبيع، كانت لهم مؤهلات شخصية أرقى بالتأكيد، وأرادوا ستر عوراتهم بسوق حجج ودعاوى، من نوع أن إسرائيل صارت كيانا معترفا به دوليا، وليس لنا سوى أن نعترف بشرعيته، كما اعترف الآخرون، وأن نقيم مع إسرائيل علاقات طبيعية، وكأن ما تسمى بالشرعية الدولية هي معيار الحقيقة، وهذا كلام يحتقر ويزدري ويتجاهل الحقيقة التاريخية المرئية الثابتة، وهي أن كيان الاغتصاب الإسرائيلي صناعي وليس طبيعيا، وأنه ثمرة احتلال استيطاني إحلالي، جرى بقوة القهر المسلح، وطرد قسما من السكان الأصليين، وتوسل لنفسه ـ كما كل احتلال غربي ـ بدعاوى الرسائل الدينية والإنسانية والحضارية، ولم يحدث أن دام احتلال استيطاني بقوة القهر وحدها، وزال التحكم الاستيطاني بقوة المقاومة وحركات التحرير الوطني، وبصمود السكان الأصليين فوق أرضهم، وعلى نحو ما حدث في حالتي الجزائر وجنوب أفريقيا، وهو ذاته ما يحدث الآن فوق أرض فلسطين المحتلة بكاملها، فقد امتلكت إسرائيل كل أسلحة الدنيا وأكثرها تفوقا وتكنولوجيا وتدميرا، لكن دعوى «الوطن القومي لليهود» تنهار وتتهافت كل يوم، بثبات الشعب الفلسطيني فوق أرضه المقدسة، وبالإبداع المقاوم المتصل، وبالزيادة الهائلة في عدد الفلسطينيين، مقابل تضاؤل الوزن السكاني لليهود المجلوبين، ونضوب موارد الهجرة اليهودية، وهو ما يدفع كيان الاغتصاب إلى الفزع من المستقبل، والخشية من التلاشي والذوبان والتحول لأقلية، فالحقائق تصنع على الأرض، وليس بتآمر المتآمرين في الأمم المتحدة وغيرها، وكفاح الشعب الفلسطيني واصل حتما إلى غايته الطبيعية، وكما أن القضية هي قضية الشعب الفلسطيني، فهي قضية الشعب والوجود المصري في الوقت نفسه، هكذا كانت في زمن الغزو الصليبي، وهكذا تكون في زمن الغزو الصهيوني، ففلسطين قضية مصرية تماما كما هي قضية الفلسطينيين، وكل مقاومة للشعب الفلسطيني تدفع الخطر عن الوجود والعمق المصري ذاته، وحروبنا مع إسرائيل كانت حروبا مصرية وفلسطينية في اللحظة نفسها، وحقائق الدم الشهيد ناطقة في تاريخنا القريب مع عصر جمال عبد الناصر، تماما كما كانت ناطقة موحية بطول وعرض التاريخ المصري كله، فكل معارك مصر التكوينية الكبرى، دارت إلى ما نسميه اليوم بالشرق العربي الذي يضم فلسطين الألصق بمصر، وفي هذه المنطقة بالذات، دارت معارك «قادش» رمسيس، و»مجدو» تحتمس، و»حطين» صلاح الدين، و»عين جالوت» قطز، ومعارك إبراهيم باشا ـ ساري عسكر عربستان ـ مؤسس جيش الدولة المصرية الحديثة، ومعارك جمال عبد الناصر وصولا إلى حرب أكتوبر 1973، ورغم مرور ما يزيد على أربعة عقود على آخر حرب مصرية مع إسرائيل، لحق فيها الانهيار بالداخل المصري، وجوعوا المصريين ونهبوهم وأفقروهم، فقد ظلت عقيدة الشعب المصري أن يقاطع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وأن ينظر لما يسمى «معاهدة السلام» باعتبارها حدثا عارضا، وحبرا على ورق، يلزم الذين وقعوه لا الذين قاوموه، بالسلاح أحيانا على طريقة تنظيم «ثورة مصر»، وبالصمود الرافض في كل الأحيان، وبما جعل «التطبيع مع إسرائيل» عارا يلحق بأصحابه، وجريمة سالبة للشرف، تنتهي بمرتكبيها دائما إلى المزابل، وكما صمدت عقيدة الشعب المصري، صمدت عقيدة الجيش المصري، وظلت «إسرائيل» هي الخطر الأول في العقيدة العسكرية والتوجيه المعنوي، فالوجود الإسرائيلي في ذاته هو خطر داهم على الوجود المصري في ذاته، وهو خطر لا يزول إلا بزوال إسرائيل وانتصار الشعب الفلسطيني.
نعم، القضية لا تقبل القسمة، فإما أن تكون مع مصر فتعادي إسرائيل، أو أن تكون مع إسرائيل فتعادي الفلسطينيين، وهو ما لا يفعله سوى الجواسيس الذين يخونون أوطانهم، أو الجاهلين بأبسط دواعي وأصول وأبجديات الوجود والمصالح الوطنية المصرية، وقد كانت نهاية «معتوه البرلمان» عبرة لمن يتعظ .