ما يحدث في بنقردان، المدينة الجنوبية التونسية، هذه الأيام مفزع. فتونس التي تعاملت إلى حد الآن مع الإرهاب على أنه عمليات فردية، وحوادث متفرقة، تستهدف المناطق السياحية بالخصوص، باتت تعي أن حجم تغلغل الإرهاب داخلها، أكبر وأخطر من توقعاتها، وأبعد من أي سيناريو تخيلت وقوعه إلى الآن، بعد أن كشف المقبوض عليهم أن الهدف من هجوم بنقردان، كان إقامة أول إمارة إسلامية في المدينة المعزولة، ومن ثم الزحف إلى باقي المدن الجنوبية للسيطرة عليها وإخضاعها لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش ).
لكن العامل الأكثر خطوة على الإطلاق هو أن تونس كثيرا ودائما ما ادعت أن الإرهاب يأتي من خارجها، من ليبيا تحديدا، وأن الإرهابيين متسللون من معسكرات داعش في الصحراء الليبية المتاخمة للمدن الجنوبية التونسية، وجاءت هجمات بنقردان للتدليل على أن الإرهابيين تونسيون من أبناء المنطقة، والمناطق المجاورة لها، وإن كانوا تلقوا تدريبا وتسليحا من معسكرات داعش في الصحراء الليبية. وأعتقد أن أهم ما يميز المرحلة القادمة في مسيرة محاربة الإرهاب هو التعامل مع هذه الحقائق بواقعية أكبر والتعاطي مع ظواهرها وتبعاتها بحذر شديد.
غير أن الملاحظ في الإعلام التونسي اليوم، أن أي محاولة للاقتراب من تلمس واقع الإرهاب في تونس، تواجه بتشكيك كبير، ويتم التعامل معها على أنها محاولة مغرضة هدفها الحط من معنويات التونسيين وتهويل الأمور وبث الذعر، وهز الثقة في الحرب على الإرهاب. وهو ما لا يساعد بالـتأكيد على تقصي الحقائق ونشرها. مؤكد أن الحرب تنبني على رفع المعنويات والتقليل من شأن العدو وإنجازاته، وهذه حرب، تنطبق عليها نفس القواعد والاستثناءات، غير أن الإعلام يظل مطالبا بنقل المعلومة دون تحريف أو تسييس أو تحيز. وفي اللحظة التي كان الإعلام التونسي يقول إن هجوم بنقردان ليس سوى كمين إرهابي صغير تمت السيطرة عليه، كان زملاء لنا على عين المكان يتحدثون عن مخطط إرهابي ضخم، يستهدف إقامة إمارة إسلامية، وعن حرب حقيقية تحدث في المدينة الصغيرة، وهو ما كشفت عنه السلطات الرسمية في وقت لاحق بعد أن أحكمت سيطرتها على الجماعات الإرهابية وأفشلت خطتهم.
تابعت في هذا الإطار حرص القنوات التونسية على تأكيد أن بنقردان بكاملها، برجالها ونسائها وشيوخها وشبابها، تقف خلف الحرب على الإرهاب، وهو ما يمكن أن يدرج ضمن عملية ذر الرماد في العيون، إذ إن معظم الحقائق والشهادات الواردة من هذه الجهات، وعلى امتداد أشهر طويلة تقول إن شباب المنطقة تسللوا تباعا إلى معسكرات داعش، لتلقي تدريبات هناك، وكان حريا بالسلطات التونسية أن تعي أن الذاهبين إلى هناك لا بد عائدون، وفي نيتهم تخريب البلاد. في نفس السياق قرأت تحذيرات وصرخات لصحفيين ومتابعين وناشطين حقوقيين، يصرون أن معلومات وتقارير تصلهم عن تواصل عمليات التسلل التدريجي إلى معسكرات الإرهاب في ليبيا، من ذلك مثلا، ما كتبته الصحفية مبروكة الخذيري على صفحتها على فيسبوك قائلة: "لتعلموا أيضا يا سادتي الكرام أن منطقة رمادة في محافظة تطاوين تشهد نزيفا لشباب يختفون منها وسط ظروف غامضة فاحذروا عودتهم وافتحوا أعينكم إن كانت لديكم رغبة حقيقية لمواجهة ما قد يقدم عليه حوالي تسعين شابا ممن اختفوا مؤخرا، ألا قد بلغت!".
وكما لم يعد خافيا، هناك حديث عن بضعة آلاف من التونسيين الذين غادورا بيوت أهاليهم إلى وجهات غير معلومة، يرجح أن يكونوا قد توجهوا إلى معسكرات الإرهاب، ويجب على السلطات الأمنية في تونس أن تتعامل مع هذه المعطيات بجدية وتحفز، فإفشال مخطط بن قردان، لا يعني أن المحاولة لن تتكرر، وأن لبنة الإرهاب موجودة داخل تونس، وهناك من يرعاها ويوفر لها الأرضية المناسبة. كما أن المنطقة التي تعاني من التهميش والفقر والعزلة، في حاجة إلى أن تركز عليها جهود التنمية والتشغيل، بأسرع وقت، وهو مطلب أولي وخطوة ضرورية في الحرب على الإرهاب.
في الأخير أريد أن أعرج على الحادثة الإعلامية الأشهر التي تزامنت مع أحداث بنقردان، وتمثلت في اقدام مذيعة الجزيرة فاطمة التريكي، على نشر صورة سيلفي، على صفحتها على فيسبوك، لجنود تونسيين يحتفلون بالانتصار، ومن خلفهم تكدست جثث إرهابيين مكومة فوق بعضها. التريكي كتبت معلقة على الصورة: ماذا يعلفونكم في هذه الجيوش العربية؟ وهو التعليق الذي أثار حفيظة التونسيين واعتبروه تطاولا على المؤسسة العسكرية، وعلى حربهم "المقدسة" ضد الإرهاب، تلقت المذيعة، على خلفيته، كمية من السباب والشتائم والنعوت على صفحتها، لا يمكن حصرها، حرصت على ألا تحذفها أو تعلق عليها، لكنها اضطرت لاحقا للاعتذار للتونسيين، كما اضطر مكتب الجزيرة في تونس لتقديم اعتذاره للشعب التونسي، على الإهانة التي طالته، في ظل تنامي الأصوات المنادية بمنع الجزيرة من البث في تونس. وبالطبع، لا يمكن تبرير ما كتبته الإعلامية فاطمة التريكي، أو إيجاد أعذار لها، وهي التي استعملت إشارات ودلالات لا يحق لصحفي محترف أن يستعملها، كما لا يحق له أن يكون طرفا في معركة لا تعنيه، إلا من ناحية تغطيتها مهنيا. مع ذلك أرى شخصيا، أن حملة التشهير والقذف التي طالت المذيعة فاطمة التريكي، تجاوزت كل حد، وهي التي كتبت تعليقها باسمها الشخصي، لا باسم القناة، ونشرته على صفحتها الخاصة، وإذا كان يمكن تبرير الحملة الشعبية عليها، بفورة الشعب التونسي، وانفعاله في ظرف استثنائي، مستنفر للأعصاب والمشاعر، فان حملة الإعلام التونسي عليها، ليس لها ما يبررها، وكنت أفضل أن أرى تعاطيا مهنيا جميلا، في موقف مخذل من إعلامية أساءت إلى نفسها ومهنتها قبل أن تسيء إلى الشعب التونسي.
عن المصري اليوم