لا تتعلم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من أخطائها المتتالية، وتصرّ دائماً على استخدام أسلحة فاشلة استخدمتها سابقاً، على الرغم من أنها لم تغير من الواقع شيئاً بل وزادت الأوضاع تفاقماً.
سياسة الاعتقال الجماعي بما فيها الاعتقال الإداري التي تعتبر دولة الاحتلال الإسرائيلي الوحيدة في العالم التي تستخدمها ضد آلاف الفلسطينيين، وهدم البيوت، وعقاب الأهالي، خاصة عائلات منفذي العمليات ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه، والإبعاد سواء الداخلي أو الخارجي... كلها لم تثمر شيئاً وفق تأكيدات قادة الاحتلال وأجهزته الأمنية، بل زادت الوضع سوءاً وتدهوراً، حتى أن المواجهات بأشكالها المتعددة تضاعفت في ظل العدوان الإسرائيلي.
في الانتفاضة الأولى كانت الاعتداءات الإسرائيلية اليومية بحق المواطنين في الضفة أو القدس أو قطاع غزة تأخذ بعداً انتقامياً، وفي بعض الأحيان بعداً إذلالياً. وعلى سبيل المثال، ما زلنا نذكر كيف كانت قوات الاحتلال تقتحم بلدة بيرزيت وتجمع الطلبة، ثم يطلب جنود الاحتلال من الطلبة الغناء أو المناداة كبائعين متجوّلين أو سبّ رموز وطنية، ومن يرفض يكون عقابه البدني حاضراً دون محاسب أو رقيب.
تراكمت الاعتداءات الإسرائيلية، فانفجر الفلسطينيون... علماً أن أوضاعهم الاقتصادية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي ربما كانت بمثابة الفترة الذهبية سواء في حيث حجم الدخل أو مستوى المعيشة.
ولم تكن سلطات الاحتلال تعي خطورة العقوبات الفردية والجماعية التي اتخذتها، والتي تسببت باندلاع الانتفاضة الأولى، ولم تتعلّم من أخطائها... بل زادت الانتفاضة اشتعالاً بتصرفاتها الهوجاء مثل تكسير العظام. وما زالت صورة جنود الاحتلال وهم يحطّمون أيدي شبان معتقلين في إحدى تلال نابلس ماثلة كأن الحدث يدور في هذه اللحظة... والنتيجة كانت تصاعد وتيرة الانتفاضة... وإن اعترف قادة الاحتلال بعد ذلك بكارثية هذه الأخطاء.
وها هو المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر يمعن من جديد في سياسة العقاب الجماعي ومن بينها إعادة تفعيل سياسات إرهابية وإجرامية ثبت بالدليل القاطع فشلها، بل زادت الأمور سوءاً.
لا شكّ في أن القرارات الجديدة القديمة هي محاولة يائسة من حكومة نتنياهو التي جاءت منذ بدايتها على قاعدة حماية الأمن الشخصي للإسرائيليين... فقد حاول نتنياهو وزمرة اليمين الفاشي الإسرائيلي تصوير حكومة التطرف على أنها قادرة على تأمين سياسة قائمة على وقف الهجمات الفلسطينية وحماية الأفراد الإسرائيليين... فجاءت الهبة لتنفي نظرية الأمن الشخصي، بل لتقوّضها من أساسها... وتفاجأ المجتمع الإسرائيلي كما فاجأت الحكومة الإسرائيلية، أما أجهزة الاحتلال الأمنية فكانت من أكبر المتفاجئين بهذا الشكل الجديد من النضال والمقاومة الفلسطينية.
وخلال الأشهر الماضية لم تترك قيادة الاحتلال الأمنية والسياسية وسيلة إلاّ واستخدمتها من أجل وقف هذه الهبّة، فاحتجزت جثامين الشهداء وهدمت المنازل وأبعدت الأهالي وحاصرت المدن والقرى وأغلقت كثيراً من مداخلها الرئيسة... كل ذلك لممارسة الضغط على الفلسطينيين في سبيل وقف الهجمات أو الحد منها... أو ربما لرغبتها في تغيير شكل الهبّة... والتي كانت تتمنى أن تكون على شاكلة الانتفاضة الثانية، للتركيز على سلبياتها وإيجاد الحجج لضرب السلطة والقوى الوطنية الفاعلة في المواجهات. ولكن هذه الهبّة بكل موجاتها الصاعدة أو الهابطة القائمة على تفكير أحادي فردي لا يمكن لأيٍّ كان الادعاء بأنه قادر على معرفة كيف ستتطوّر، وماذا سيحدث بعد ساعة وليس بعد يومٍ أو أسبوع...
الهبّة التي قضت على مفهوم الأمن الشخصي وأسقطت نظرية اليمين الإسرائيلي بأنه الوحيد القادر على توفير الحماية لكل إسرائيلي... غيّرت كثيراً من المفاهيم اليوم... وأصبح الكلّ في حالة انتظار، ماذا سيحدث بعد دقيقة أو ساعة؟ أين ستكون الموجة القادمة؟ ما هو شكلها؟ أو من المشارك فيها؟ ولماذا؟!!
أسئلة أصعب من أن يتمكن أحد من الإجابة عنها... لماذا؟ لأن المواطن الفلسطيني أغلقت أمامه كل السبل... سواء على الصعد السياسية أو الاقتصادية أو حرية الحركة والتنقل أو حتى حرية الرأي... فيكفي مثلاً أن يعبر شاب عن رأيه أو أن يكتب على صفحته كلمة «وداعاً»... حتى تنقلب الدنيا... وتعلن قوات الاحتلال حالة التأهب القصوى وتقتحم وتعتقل... لأن هذه الكلمة أصبحت ذات مغزى...
إذن هذه هي سرّ قوة الهبّة... سرّ من الصعب اكتشافه حتى لو استخدمت سلطات الاحتلال كل سياسة العصي التي استخدمتها أو ربما سيتفتق ذهنها عن أساليب جديدة... وتسجّل في سجّل إرهاب الدولة الذي يجب أن تحاسب عليه!!!