فتحت هدنة 28 شباط في سورية، حصيلة التفاهم الأميركي الروسي، بوابة الجلوس الفعلي على الطاولة لبحث الحل السياسي وإقراره، بديلاً لمنطق الحرب وفشلها، فالهدنة حتى ولو بقيت هشة أو متقلبة أو تخللها خروقات، سيكون النقاش حول كيفية تغيير قواعدها من هشة إلى قوية، ومن متقلبة إلى دائمة، ومن خرقها إلى وقف هذا الخرق، ولن يكون الهدف استثمار الهدنة لتعزيز القدرات العسكرية لهذا الطرف أو ذاك، بل لإنجاز الهدف السياسي بعد الهدنة، فالهدنة محطة ضرورية نحو الانتقال إلى مناخ آخر. لقد أقر التفاهم الأميركي الروسي، عبر قرار مجلس الأمن 2254، وقرار وقف إطلاق النار، بوجود الأطراف المتقاتلة رسمياً وهي
: 1- التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة بما فيها المعارضة المسلحة، 2- القوات المسلحة الرسمية السورية، 3- القوات الروسية، 4- تنظيما داعش والنصرة، وأن التفاهم يشمل الأطراف الثلاثة الأولى في مواجهة الطرف الرابع معسكر داعش والقاعدة.
قوات المعارضة السورية المنخرطة في صفوف التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، بدأت مطالباتها أو شروطها لبلع الهدنة، ومن ثم بلع الأقرار بوجود القوات السورية والنظام السوري ومن ثم بشار الأسد، بدأت مطالباتها بضرورة أن يقدم النظام إجراءات ثقة، وذلك عبر إطلاق سراح المعتقلين، وإدخال المواد الغذائية، وغيرها من المطالب وفق المادة 12 و 13 من قرار مجلس الأمن، أي أن مطالبها تحولت إلى مطالب بناء الثقة وعلى قاعدة قرار مجلس الأمن، أي على قاعدة تفاهمات الولايات المتحدة وروسيا والاتفاق بينهما.
التفاهمات والاتفاق الروسي الأميركي وصل إلى صيغة عدم الهزيمة وعدم الانتصار لطرف على حساب طرف، أي أن النظام سيبلع وجود معارضة رسمية له، وأن المعارضة تحتاج للتكيف مع وجود نظام بشار الأسد، وبقائه، وكلاهما سيقف موحداً في خندق واحد في مواجهة تنظيمي داعش والقاعدة.
جنيف 3، لن يكون مثل جنيف واحد واثنين، بل سيعكس موازين القوى المستجدة على الأرض، وسيعكس الإقرار بوجود الطرفين وضرورة تفاهمهما وتكيفهما مع بعضهما البعض، النظام مع المعارضة، وليس أحدهما بديلاً عن الآخر، بل أن كليهما ضد معسكر داعش والقاعدة المتطرف، وهو أمر صعب ولكن واشنطن وموسكو ومعهما المبعوث الأممي دي ميستورا يسعون إلى اختزال عوامل الزمن لفرض منطق التفاهم والإقرار به وتوسيعه وإنجازه، وهو أمر تحاول الأطراف بلعه أو تسهيل بلعه على نفسها، خاصة وأن الأطراف الإقليمية ما زالت تتحدث بمنطق غير مفهوم بقولها "لا مستقبل لبشار الأسد" وفق التصريحات التركية و"على الأسد أن يرحل سلماً أو حرباً" وفق تصريحات الوزير السعودي عادل الجبير، وهي تصريحات ولا تتفق مع مسار التفاهمات الروسية الأميركية، وهي إما مضللة وإما أنها ما زالت أسيرة ما قبل التفاهمات الروسية الأميركية، وما قبل الاتفاق بينهما حول سير الأحداث في سورية ومستقبلها السياسي الموحد .
زيارة أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء التركي إلى طهران يوم 5/3، بداية التراجع السياسي لتركيا عن تطرفها غير المقبول دولياً وغير المفهوم إقليمياً بشأن سورية، وخاصة بعد التفاهم الأميركي الروسي، ولذلك سيكون الاتفاق الروسي الأميركي وتفاهماته هو أساس التفاوض بين العاصمتين التركية والإيرانية، ولن يكونا بالمطلق، ولن يتوصلا إلى ما هو دون الاتفاق الدولي، بل سيكون بداية التراجع الخجول لتركيا عن تطرفها وبداية مساوماتها لتحسين شروط التعامل معها، حتى لا تكون الهزيمة والخذلان البديل عن عنوان برنامجها السابق في إسقاط النظام السوري.
الاتفاق المعلن التركي الإيراني بالتمسك بوحدة سورية الدولة، اتفاق مهم ويعكس مصالح البلدين لخشيتهما من تداعيات الأزمة السورية السيئة وهي تفكيك سورية، بين العرب والكرد، وبين السنة والشيعة، وبين الكل والجزء الدرزي، وهي حصيلة ليست مدمرة لسورية فحسب، بل هي بداية التدمير القومي والطائفي لكل من تركيا وإيران، فكلا البلدين يحويان تجمعات ومكونات لا تقل تعددية عن سورية والعراق، بل تفوق ذلك، الأمر الذي يدفع بالعاصمتين للتعامل بحذر مع نتائج الأزمة السورية حتى لا تصل إلى بلديهما وهو الخراب في تفكيك الدولة التركية بين ثلاث قوميات تركية وكردية وعربية، ومثلها إيران، الأمر الذي دفع الطرفان الإيراني والتركي نحو الاقتراب من الصواب الواقعي، وعبرتا عن حرصهما على وحدة التراب السوري، وهو دافع يكمن فيه حرصهما على وحدة تراب بلديهما أكثر من حرصهما على سورية موحدة.
زيارة أوغلو إلى طهران لها ما بعدها، ما يشكل نتائج تختلف عما قبلها وهذا ما سنلمسه عما قريب في تغيير المواقف التركية بالضرورة بما ينسجم أو يقترب من المواقف الأميركية والروسية والإيرانية.
العالم يفهم مصالحه ويتصرف على أساسها، المشكلة فينا نحن العرب الذين لم نحدد بعد كيفية التصرف وفق مصالحنا ونضع الأولويات حرصاً وخدمة للمصالح العربية، نحن نجيد الطخ على أرجلنا وهذا هو أدنى درجات السلم السياسي.