يوم الثقافة، والمستقبل المخيف

عبد الغني سلامة
حجم الخط

بين التعليم والثقافة علاقة عضوية لا تقبل الانفصام، إذْ يصعب تخيل فضاء ثقافي في أرضية قاحلة. فباستثناء الحالات الخاصة والمواهب الفردية، يتعذر على المجتمعات التي تتفشى فيها الأميّة إنتاج ثقافة أو أدب أو فن من أي نوع. فإذا علمنا أن نسبة الأمية في مجمل الوطن العربي حوالي 19% من إجماليّ السكان، وأن عدد الأميين بلغ نحو 100 مليون عربي. ونسبة الأمية لدى الإناث ضعف النسبة لدى الذكور (حسب المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألكسو")؛ فإننا أمام مستقبل ثقافي غير واعد. 
وإذا خضنا في تفاصيل الحالة العربية، خاصة في السنوات الخمس الأخيرة، وما شهدته من تطورات خطيرة، فإننا سنكون أمام مستقبل مرعب، والسبب هذه المرة افتتاح بوابات جديدة للأمية، وطبعا بفعل الحروب والثورات الداخلية. 
فوفقاً لتقرير خاص بثته قناة الحرة، فإن الصراعات الأهلية في أربعة بلدان عربية (العراق، سورية، اليمن، ليبيا) قد أدت إلى تدمير تسعة آلاف مدرسة، بحيث لم تعد صالحة للتدريس، إلى جانب مئات المدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء للاجئين. وحتى بوجود آلاف المدارس الأخرى؛ فإن أجواء الحروب والإقتتال أدت إلى حرمان حوالي سبعة ملايين طفل عربي من التعليم. 
في العراق وحدها نحو 900 ألف طفل بدون مدارس، بسبب نزوح أهاليهم المتكرر إلى مناطق ومخيمات غير آمنة، أو لا تتوفر فيها مدارس. وفي الأردن نحو 145 ألف طفل سوري لا يتلقون تعليم منتظم، وهنالك نحو 120 ألف طفل سوري في دول أخرى لا يتلقون أي تعليم، ومئات الآلاف من الطلبة السوريين في تركيا يدرسون في مدارس غير نظامية. أما اليمن، والتي يموت فيها أو يُجرح 13 طفل كل يوم، هنالك نحو 380 ألف طفل دون مدارس. وحسب تقارير للأمم المتحدة، هنالك 21 مليون طفل عربي يتسربون من المدارس (شبه أميين)، أو يواجهون خطر فقدان مدارسهم.
في ظل هذه الأرقام المخيفة، ومع نسبة أمية مرتفعة أصلا، واحتمالات تسرب ملايين الأطفال من مدارسهم، هل يمكن تخيل أي مستقبل مرعب سنواجهه بعد سنوات قليلة !؟ على الأرجح، نسبة كبيرة من هؤلاء الأطفال سيتجهون الى سوق العمل مبكرا (حاليا 10% منهم فعلا يعملون في أشغال غير متناسبة مع أعمارهم)، ولن يتوقف الأمر بكل تأكيد على عمالة الأطفال؛ فالخطر الأكبر من عصابات المخدرات، والمافيات، وعصابات الإتجار بالبشر، التي قد تقوم باستغلالهم جنسيا، أو الإتجار بأعضائهم، أو استغلالهم في أعمال شاقة. والخطر الآخر تمثله الجماعات الإرهابية والأصولية، التي بدأت بالفعل منذ سنوات بتجنيد الأطفال خاصة في المناطق التي تسيطر عليها، بهدف غسل أدمغتهم، وزرع الفكر العنصري في عقولهم في هذا السن المبكر، وتهيئتهم لأن يصبحوا قتلة؛ حيث تقوم تلك الجماعات (ليس داعش فقط) بتلقينهم دروسا دينية متعصبة منتظمة، وتشريبهم المبادئ المتشددة، ثم تدريبهم فعليا على الأعمال القتالية، إلى أن يتم إرسال من يقع عليه الاختيار إلى أحد الأهداف ليفجّر نفسه هناك.
وهؤلاء الأطفال سيتعرضون لأشكال مهينة من الأذى الجسدي والنفسي، وبالتالي حتى لو عادوا لمجتمعاتهم في مرحلة ما، فإنهم سيواجهون صعوبات بالغة في التكيف، وقد يستبد به باليأس والشعور بضياع المستقبل.
وإضافة لتأثير تزايد أعداد الأميين، وحرمان ملايين الأطفال من حقهم في التعليم؛ فإن مستقبل الثقافة العربية قد رسمت معالمه أيضا معاول الجماعات المتطرفة، التي انهالت تحطيما بكل المعالم الأثرية والثقافية والحضارية في العديد من البلدان العربية، من تماثيل ونُصب فنية ومتاحف ومكتبات، ولم يتوقف الأمر عند التحطيم المادي وحسب؛ فالمشكلة في انتشار الأفكار الوهابية الرجعية في الجامعات والمدارس، وحتى في أوساط الطبقة الوسطى، وما نجم عن ذلك من محاربة للفن والإبداع وتقييد للحريات، مع تراجع وانحطاط قيمي وحضاري وتعصب مذهبي وطائفي؛ كانت أبرز تجلياته اندلاع الفتنة الطائفية في المنطقة العربية، وظهور داعش وغيرها من الجماعات الأصولية.
في سياق متصل، تحتفل فلسطين هذه السنة بيوم الثقافة الوطنية، في ظل مرحلة غير عادية، تشهد تراجعات غير مسبوقة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من ناحية، ومن ناحية ثانية تشهد تقدما نوعيا، ولكنه غير مكتمل من الناحية الثقافية. 
فالمشهد السياسي توقف عند لحظة انسداد، كشفت عن بؤس واقعنا السياسي والنضالي. أما المشهد الثقافي فقد بدأ يطل على إنجازات واختراقات من الممكن أن تنقلنا خطوات كبيرة نحو مستقبل أفضل؛ فقد حاز عدد من الكتّاب والشعراء والفنانين الفلسطينيين على جوائز عربية ودولية مرموقة؛ حيث فاز الروائي "أسامه العيسه" بجائزة الشيخ زايد للكتاب، وحصل الأكاديمي "زياد مدوخ" على جائزة التميز بمسابقة الشعر الدولية، وظهر اسم الشاعر "غسان زقطان"، في القائمة القصيرة لجائزة "نيو ستاند العالمية للأدب"، والمعروفة باسم "نوبل أمريكا"، وحازت الكاتبة "عائشة عودة" على جائزة " مؤسسة ابن رشد". وفاز فيلم "يا طير الطاير" للمخرج "هاني أبو أسعد" بـجائزة في مهرجان دبي السينمائي، ويحكى الفيلم قصة صعود الفنان "محمد عساف"، وحصل عازف البيانو "أيهم أحمد" على جائزة بيتهوفن العالمية. وتأهلت أكثر من رواية فلسطينية للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر"، وشهد متحف محمود درويش في رام الله، ومركز عبد الله الحوراني في  غزة وغيرها من المنتديات الثقافية عشرات الفعاليات الثقافية وحفلات إطلاق كتب ودواوين وإصدارات لشعراء وكتّاب جدد ومخضرمين، إضافة لتشكّل بدايات واعدة في مجالات الفن والمسرح والسينما والموسيقى، استطاعت إثبات حضورها في مسارح ومهرجانات عالمية. وعلى صعيد آخر، حصدت فلسطين المرتبة الأولى عربياً في انتشار التعليم، وقلة الأمية، بنسبة 96.4% (حسب تقرير "الألكسو"). وبالرغم من صعوبة أوضاع المعلمين، وتوقف العملية التعليمية لأكثر من شهر بسبب الإضراب، إلا أن المعلمة الفلسطينية "حنان الحروب" فازت بجائزة أفضل معلم على مستوى العالم.
فبالرغم من قتامة المشهد العربي بوجه عام؛ إلا أن الفلسطييين يعيشون حالة نهوض ثقافي (بغض النظر عن مدى الرضا عنها) وهذه الحالة تطرح تحديات جدية على المثقفين الفلسطينيين بأن يحولوها إلى حالة نهوض وطني عام، خاصة وأن حقيبة الثقافة يستلمها وزير مثقف وشاعر، لديه مشاريع طموحة.