بعد ما أسس النبي صلى الله عليه و آله و سلم الدولة الإسلامية في المدينة المنورة لم يجد الطريق مفروشا أمامه بالورود بل تكالبت عليه المخاطر و الأعداء مما أوجب عليه أن يتصدى لها على نحو يبدو لكل منصف أن به من الإبداع ما يتفوق به على كل ساسة العالم قديما و حديثا.
في البداية ركز النبي صلى الله عليه و آله و سلم جهده السياسي والعسكري على مناوئة قريش التي حاربت الإسلام و أخرجت المسلمين من ديارهم و أموالهم, و في نفس الوقت لعبت قريش دور زعيمة الوثنية العربية و رأس حربتها في مواجهة دولة الإسلام.
في المرحلة الأولي شن النبي صلى الله عليه و آله و سلم سلسلة من الحملات العسكرية الصغيرة اصطلح المؤرخون على تسميتها باسم السرايا, و جاءت هذه الهجمات أشبه بمناورات حية كان المقاتل المسلم يجس عن طريقها نبض أعدائه و يختبر إمكاناتهم الحربية ماديا ومعنويا , و يمارس مزيدا من التدريب وتنمية قدراته وطاقاته على الصمود... هذا بالنسبة للجيش الإسلامي.
أما بالنسبة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم فقد حقق بسراياه الأولى عددا من المنجزات العامة يمكن حصرها بما يلي:
1- الاستطلاع:
استطاع المسلمون التعرف على الطرق المحيطة بالمدينة والمؤدية إلى مكة خاصة الطرق التجارية الحيوية لقريش بين مكة و الشام كما تمكنوا من التعرف على قبائل المنطقة.
2- القتال:
أ- أثبت المسلمون أنهم أقوياء و يستطيعون الدفاع عن أنفسهم و عقيدتهم تجاه المشركين من قريش و غيرهم من أعداء الدولة الإسلامية.
ب- تحالف المسلمون مع بعض القبائل المجاورة.
3- الكتمان:
ابتكر الرسول أسلوب الرسائل المختومة والتي لا يفك القائد الإسلامي ختمها إلا في الموعد الذي حدده له النبي صلى الله عليه و آله و سلم للمحافظة على الكتمان و حرمان العدو من الحصول على المعلومات التي تفيده بشأن تحركات المسلمين, و الكتمان أكبر عامل من عوامل مبدأ المباغتة التي هي إحداث موقف لا يكون العدو مستعدا له, و المباغتة هي أهم مبدأ من مبادئ الحرب, و قد سبق المسلمون غيرهم في ابتكار هذا الأسلوب الدقيق.
4- الحصار الاقتصادي:
هدد المسلمون أهم الطرق التجارية بين مكة و الشام فأصبحت قوافل قريش غير آمنة حين تسلك هذه الطرق مما ترتب عليه أسوأ الأثر على تجارة قريش التي تعيش عليها, و شكل ضغطا اقتصاديا على مكة بمحاولة حرمانها من سلوك طريق مكة الشام بأمان.
و كما حرص النبي صلى الله عليه وآله و سلم على أن يقيم في داخل المدينة أداة للحكم و أن ينظم شئونها الداخلية كذلك حرص عبر إرسال السرايا الحربية على أن يضم إلى المدينة ما حولها من ريف و قبائل و أن يخطط للمدينة المنورة مجالها و يقرر حدودها و يعقد لها أحلافا مع القبائل النازلة حولها, لأن المدينة (أي مدينة) لا يمكنها أن تعيش بنفسها و لا أن تستغني عن ريف يمدها بالمؤن و يكون مجالا لنشاطها و كان هذا أحد أسباب إرسال النبي لعدة سرايا انطلقت من المدينة واتجهت إلى جميع الجهات فأمنت هذا الريف, و عقدت في أثناء هذه السرايا أحلافا مع القبائل المجاورة, إذ إنه لابد لسكان المدن التي تقوم في وسط جو بدوي أن تعمل حسابا كبيرا لغزوات البدو و لا يكون ذلك إلا عن طريق محالفة البدو ثم كسر شوكتهم بالضرب على أيديهم إذا اعتدوا و نقضوا العهد و إشعارهم دائما بقوة المدينة و قدرتها على الضرب.
و كانت إستراتيجية الرسول في توجيه سراياه و غزواته تعتمد على الحذر الدائم و الحرص على أن يعرف من أخبار القبائل ما يمكنه من تدبير أمره لإقرار هيبة الدولة في نفوس البدو فكان لا يترك فرصة لهم للتجمع لغزوه و مهاجمة دولته بل كان يقظا سريع الحركة فما كان يسمع بتجمع أعدائه حتى يفاجئهم قبل أن يستكملوا جمع قواهم فيشتت شملهم ويلقى الرعب في قلوبهم, فالهجوم عنده كان أقوى وسيلة للدفاع, و تحطيم قوة العدو قبل أن تكتمل أفضل من تركها تتجمع ثم الصمود أمامها.
و لقد أتاحت هذه الظروف للدولة الإسلامية في المدينة فرصة الاستقرار.
ثم بدأ بعد ذلك طور جديد من أطوار الصراع مع الوثنية عبر المعارك الكبرى التي اصطلح المؤرخون على تسميتها بالغزوات, فكانت عدة غزوات نذكر هنا أبرزها و أولها و هي بدر.
غزوة بدر الكبرى
بدأت غزوة بدر عندما أبلغ الرسول صلى الله عليه و آله وسلم أن قافلة لقريش تضم ألف بعير قادمة من الشام صوب مكة يقودها أبو سفيان في ثلاثين أو أربعين تاجرا مكيا, وبمبادرة لا تردد فيها قال لأصحابه : "هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها".
و نظرا إلى أن نداء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن أمرا ملزما بل كان ندبا فمن شاء فليخرج للغزو و من لم يشأ لا يخرج, و نظرا إلى أن أحدا لم يكن يتوقع أن لقاء مسلحا حاسما سيتمخض عن التحدي الجديد هذا, فقد خرج بعض المسلمين بقيادة رسولهم الكريم صلى الله عليه و آله و سلم لمهاجمة القافلة, وتخلف بعضهم الآخر كما إن الذين خرجوا لم يأخذوا أهبتهم الكاملة من السلاح و التأهب ..
و ما أن سمع أبو سفيان بخبر تحرك المسلمين لمجابهة قافلته حتى أرسل لمكة على جناح السرعة يستنجد بهم طالبا أن يخرجوا بجيشهم لإنقاذ أموالهم.
فتجمعت قريش كلها 950 مقاتلا تصاحبهم مائة فرس و لم يتخلف من أشرافهم أحد خلا أبو لهب الذي يبدو أن مرضه و كبر سنه أقعده عن اللحاق بالجيش, و استطاع أبو سفيان أن يفلت من قبضة المسلمين بإسراعه صوب الطريق الساحلي متجنبا الطريق الداخلي الذي كان المسلمون يكمنون له به, و ما إن اطمأن على قافلته حتى أرسل لقريش يطلب منهم الرجوع بجيشهم لمكة لأن القافلة قد نجت, لكن أبو جهل صمم على أن يسير جيش قريش لبدر حيث ينعقد به سوقا للعرب بشكل موسمي و يقم الجيش هناك ثلاثة أيام حتى يسمع بهم العرب فيظلوا يهابون قريش, و لذا التقى بجيش المسلمين قليل العدد و العدة عند بئر بدر وانتصر المسلمون بفضل و تأييد الله لهم وكان ذلك يوم الجمعة 17 رمضان.
وبغض النظر عن تفاصيل المعركة و المواقف داخل كل من الفريقين (المسلمون و قريش) فإن هناك عدة عوامل مادية لعبت دورا في النصر فضلا عن نزول الملائكة لتأييد المسلمين, و هذه العوامل هي:
1- القيادة الموحدة:
كان الرسول صلى الله عليه و آله وسلم القائد العام للمسلمين في معركة بدر وكان المسلمون يعملون كيد واحدة تحت قيادته يوجههم في الوقت الحاسم للقيام بعمل حاسمو, و هذا واجب القائد الكفء , و كان انضباط المسلمين في تنفيذ أوامر قائدهم مثالا رائعا للانضباط الحقيقي المتين, و إذا كان الانضباط أساس الجندية و إذا كان الجيش الممتاز هو الذي يتحلى بانضباط ممتاز فقد كان جيش المسلمين جيشا ممتازا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان, و إن معنى الضبط هو اطاعة الأوامر و تنفيذها بحرص و أمانة و عن طيبة خاطر, و قد فعل المسلمون ذلك لأن قائدهم يتحلى بصفات القائد المثالي.. ضبطا للأعصاب في الشدائد شجاعة نادرة المواقف, مساواة لنفسه مع أصحابه, استشارة في كل عمل حاسم, أما المشركون فلم يكن لهم قائد عام, كان أكثر سادة قريش مع قوات المشركين و لكن كان أبرز السادة كانا رجلان هما عتبة بن ربيعة و أبو جهل ولم يكونا على رأي واحد و ليس لهما هدف واحد.
2- التعبئة الجديدة:
طبق الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في سيره نحو موقعة بدر تشكيلة لا تختلف بتاتا عن التعبئة الحديثة في حرب الصحراء , كان لجيشه مقدمة و قسم أكبر و مؤخرة , و استفاد من دوريات الاستطلاع للحصول على المعلومات.
وتلك هي الأساليب الحديثة لتشكيلات مسير الاقتراب في حرب الصحراء حتى الآن.
أما في المعركة فقد قاتل المسلمون بأسلوب الصفوف بينما قاتل المشركون بأسلوب الكر و الفر و هو أسلوب لم يكن يلائم أوضاع المعركة.
3- العقيدة الراسخة:
كان للمسلمين أهداف معينة يعرفونها و يؤمنون بها و هي إطلاق حريتهم كاملة لبث دعوتهم حتى تكون كلمة الله هي العليا, بينما كانت أهداف قريش هي نحر الذبائح وشرب الخمر و تغني المغنيات فتسمع العرب بمسير قريش و تباهيها بقوتها فتظل تخافها, وهل نستطيع تسمية ذلك أهدافا أم أن ذلك طيش و غرور و عصبية جاهلية؟!
4- المعنويات العالية:
شجع الرسول أصحابه قبل القتال و أثنائه و قوى معنوياتهم حتى لا تهتز معنوياتهم بتفوق قريش عليه في العدد و العدة, و لم تكن معنويات الذين مارسوا الحرب وعرفوها من المسلمين عالية فحسب بل كانت معنويات الأحداث الصغار الذين لم يمارسوا حربا و لا قتالا عالية أيضا.. لقد أثبتت كافة الحروب في كافة ادوار التاريخ أن التسليح والتنظيم الجيدين والقوة العددية غير كافية لنيل النصر ما لم يتحل المقاتلون بالمعنويات العالية.
بالإضافة إلى كل ذلك تمخضت معركة بدر عن نتائج مهمة فقد هزت بشدة طرق تجارة المكيين وهي عصب حياتهم و أضعفت هيبة مكة و نفوذها على العرب, و تطورت قوة الإسلام و تعززت دولته الجديدة في المدينة, و انفسح المجال لنشر دعوتهم وازداد التضامن بين المهاجرين والأنصار قوة وتماسكا.
وعلى منوال معركة بدر جرت العديد من المعارك بين المسلمين و قوى الوثنية ومع قوى اليهود أيضا الذين نقضوا عهودهم مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم, كما جرت العديد من المعاهدات أشهرها صلح الحديبية حتى تكلل ذلك كله بفتح مكة و إسلام أهل الطائف و أهل اليمن ودخل الناس في دين الله أفواجا, و أصبحت الجزيرة العربية كلها موحدة تحت راية الإسلام.
و حج النبي صلى الله عليه و آله و سلم حجة الوداع قبل وفاته و أرسى فيها العديد من القيم والمبادئ الإسلامية السامية فكان مما جاء في خطبته صلى الله عليه و آله و سلم في حجة الوداع:
أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا..
أيها الناس إن دمائكم و أموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا و كحرمة شهركم هذا..
و إنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم (و قد بلغت) فمن كانت عنده أمانة فليؤدها لمن ائتمنه عليها ..
و إن كل ربا موضوع و لكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون و لا تُظلمون قضى الله أنه لا ربا, وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله, و إن كل دم كان في الجاهلية موضوع و إن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب (الذي قتلته هذيل) فهو أول من أبدأ به من دماء الجاهلية...
أيها الناس إن الشيطان قد يأس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا, و لكنه يطمع فيما سوى ذلك..
أيها الناس إن النسئ زيادة في الكفر يضل به الذي كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله ليحلوا ما حرم الله...
أيها الناس إن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا, فاستوصوا بهن خيرا فإنهن عندكم عوان (أي أسيرات) لا يملكن لأنفسهن شيئا, و إنكم إنما أخذتهن بأمانة الله فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت.
و قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله و سنة نبيه..
أيها الناس اسمعوا قولي و اعقلوه تعلمون أن كل مسلم أخ لمسلم, و أن المسلمين أخوة, فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم...
اللهم قد بلغت, فأجابه المسلمون جميعا : اللهم نعم
فقال صلى الله عليه و آله و سلم اللهم اشهد.
و بعد ذلك بقليل قال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم للوفود المحتشدة حوله عند جمرة العقبة, ما يشعر بحلول أجله القريب "خذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامي هذا".
وما لبث أن توفى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في 12 ربيع الأول من العام التالي (عام 11هـ).
وعندما ألف العلامة مايكل هارت في القرن الماضي مؤلفه الشهير "الخالدون مائة اعظمهم محمد" قال :
و ربما بدا غريبا حقا أن يكون النبي محمد في رأس هذه القائمة رغم أن عدد المسيحين ضعف عدد المسلمين و ربما بدا غريبا أن يكون محمد عليه السلام هو رقم واحد في هذه القائمة بينما عيسى عليه السلام هو رقم 3 وموسى عليه السلام هو رقم 16 , و لكن لذلك أسباب :
من بينها أن الرسول محمد صلى الله عليه و سلم قد كان دوره أخطر و أعظم في نشر الاسلام و تدعيمه و إرساء قواعد شريعته أكثر مما كان لعيسى عليه السلام في الديانة المسيحية , و على الرغم من أن عيسى عليه السلام هو المسئول عن مبادئ الأخلاق في المسيحية غير أن القديس بولس هو الذي أرسى أصول الشريعة المسيحية , و هو أيضا المسئول عن كتابة الكثير مما جاء في كتب "العهد الجديد" .
أما الرسول محمد صلى الله عليه و سلم فهو المسئول الأول و الأوحد عن إرساء قواعد الإسلام و أصول الشريعة و السلوك الاجتماعي و الأخلاقي و أصول المعاملات بين الناس في حياتهم الدينية و الدنيوية . كما أن القرآن الكريم قد نزل عليه وحده و في القرآن وجد المسلمون كل ما يحتاجون إليه في دنياهم و آخرتهم.
و أضاف قائلا أن :
"القرآن الكريم نزل على الرسول صلى الله عليه و سلم كاملا. و سجلت آياته وهو ما يزال حيا و كان تسجيلا في منتهي الدقة, فلم يتغير منه حرف واحد.. و ليس في المسيحية شئ مثل ذلك, فلا يوجد كتاب واحد محكم دقيق لتعاليم المسيحية يشبه القرآن الكريم, وكان أثر القرآن الكريم على الناس بالغ العمق, و لذلك كان أثر محمد صلى الله عليه و سلم على الإسلام أكثر و أعمق من الأثر الذي تركه عيسى عليه السلام على الديانة المسيحية.
و يستمر هارت فيقول:
فعلى المستوى الديني كان أثر محمد صلى الله عليه و سلم قويا في تاريخ البشرية و كذلك كان عيسى.
و كان الرسول محمد على خلاف عيسى رجلا دنيويا فكان زوجا و أبا و كان يعمل في التجارة و يرعى الغنم , و كان يحارب و يصاب في الحروب و يمرض .. ثم مات..
و يقول مايكل هارت أيضا:
"لما كان الرسول صلى الله عليه و سلم قوة جبارة فيمكن أن يقال إنه أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ"
ثم يختم كلامه عن النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم بقوله :
"فهذا الامتزاج بين الدين و الدنيا هو الذي جعلني أومن بأن محمد صلى الله عليه و سلم هو أعظم الشخصيات أثرا في تاريخ الانسانية كلها".