إعلان روسيا المفاجئ عن البدء بسحب القوات الروسية من سورية، تزامناً مع عودة المفاوضات بين النظام والمعارضة بإشراف دولي كثيف ينطوي على تقييم لطبيعة الأوضاع هناك بكل تشعباتها وعلى اختلاف اتجاهاتها. منذ البداية أعلنت روسيا أنها ليست بصدد تدخل طويل المدى في سورية، مع العلم أن الصراع الذي تشهده سورية، سيستغرق زمناً طويلاً، وفي ضوء ذلك، جاء الانسحاب بعد نحو ستة أشهر من بدء عمليات القصف الجوي الروسي، في آخر يوم من شهر أيلول العام الماضي.
خلال هذه الفترة، التي امتدت لستة أشهر أدى التدخل الروسي إلى قلب المعادلة، حيث أدى إلى اختلال ميزان القوة بشكل واضح لصالح النظام وقواته، وإلى توسيع رقعة سيطرته في الجغرافيا السورية. فإن أحد أهم الإعلانات الروسية، يتحدث عن أن التدخل الروسي يسعى للحفاظ على وحدة الدولة السورية، ما يعني أن هذا الانسحاب يتم بعد ضمان هذا الهدف موضوعياً، رغم كثرة التقولات المستندة في الحقيقة إلى واقع معين، حول إمكانية تقسيم البلاد.
من الواضح أن روسيا، لا تسعى للحسم النهائي، لصالح النظام، بمواصلة عملياتها العسكرية المؤثرة، بقدر ما انها تسعى لحماية وحدة الدولة، ووضع النظام في مكانة القوة التي تجعله مستعداً للانخراط في عملية سياسية ذات جدوى وقابلة للتحقيق. وفق الاستراتيجية الروسية، فإن استمرار التدخل العسكري لصالح النظام إلى أن يتم حسم الصراع، كان سيؤدي إلى توفير كل أسباب العناد للنظام، بحيث يرفض الدخول في أية مفاوضات مع المعارضة، تؤدي إلى تغيير حقيقي، جوهري وسلمي لطبيعة النظام السائد، ونحو نظام ديمقراطي. بالإضافة إلى ذلك فإن روسيا، لا تستطيع تجاهل التدخلات القوية الدولية والإقليمية، التي تعكس تضارباً في المصالح، ما يرتب عليها اعتماد استراتيجية تراعي مصالح، أو الحد الأدنى من مصالح الأطراف الداخلية على خط الأزمة.
هذا يعني أن روسيا التي اقتحمت بقوة النظام العالمي القديم، وقدمت نفسها كطرف فاعل في أهم وأخطر الملفات، واستطاعت أن تفرض قدرتها على الحفاظ بل وتوسيع مصالحها في أكثر المناطق حيوية، هذا يعني أن روسيا لا تريد أن تحصر مصالحها وعلاقاتها في هذه المنطقة بسورية وإيران.
تتطلع روسيا إلى تحسين علاقاتها مع السعودية ومصر ودول الخليج العربي، بالإضافة إلى إيران وسورية، وتطرح نفسها شريكاً ومعادلاً للولايات المتحدة في توزيع المصالح، وهو ما فشلت في تحقيقه الدول الأوروبية التي خاضت إلى جانب الولايات المتحدة حروباً، ودفعت أثماناً باهظة بدون أن تحصل على حصة. تقدم روسيا نموذجاً مختلفاً عن السياسة الأميركية التي تسيدت على العالم لأكثر من عقدين من الزمن أظهرت خلالها، أنانية مفرطة في احتكار المصالح، وإقصاء الشركاء، بما في ذلك الدول العربية التي ظلت على علاقة أكثر من وثيقة مع الولايات المتحدة الأميركية.
الدول العربية، خصوصاً دول الخليج تشعر بخيبة أمل كبيرة إزاء السياسة الأميركية، التي أظهرت تردداً في مكافحة الإرهاب وعملت على استغلاله وتوظيفه لتحقيق مخططاتها التقسيمية وأطماعها في هذه المنطقة.
في كل الأحوال ما كان لروسيا الطموحة أن يصل مستوى تدخلها العسكري في سورية إلى درجة تكرار التجربة الأفغانية التي ألحقت الهزيمة بجيش الاتحاد السوفياتي سابقاً، وكلفته أثماناً باهظة، فيما جاءت النتائج على عكس المأمول. ولهذا السبب، وبسبب طبيعة وأهداف التدخل الروسي العسكري، التي لا نتجاهل أن من بين دوافعه، إظهار المزايا الهائلة للسلاح الروسي، الذي يتمتع بقدرات تكنولوجية متقدمة جداً، لكل هذا جاء التدخل فقط من خلال الطيران الحربي أما استخدام الصواريخ على نحو محدود، فكان له رسائل محددة.
على أن القرار الروسي بسحب القوات العسكرية، ولا نعتقد أن الانسحاب سيكون شاملاً، ينطوي على رسالة غاية في الأهمية على المستوى الدولي، إذ أنه يقدم صيغة جديدة في العلاقات الدولية إزاء كيفية تحمل المجتمع الدولي لمسؤولياته تجاه الأزمات الخطيرة التي تقع في أكثر من مكان على هذه الأرض.
الإعلان عن الانسحاب، وإن كان قراراً روسياً بالدرجة الأولى، جاء كتتويج لتفاهمات روسية أميركية تشمل الاتفاق على مفاصل وتداعيات وآفاق الملف السوري، الأمر الذي يفتح العلاقات الروسية الأميركية على مرحلة من التفاهمات الإيجابية والمثمرة فيما يتعلق بالكثير من الأزمات.
هنا يطرح ملف الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي كواحد من أهم وأخطر الملفات التي تواجهها البشرية، وإن بدا أنه في وضعيته الراهنة لا ينطوي على مخاطر جدية على مصالح القوى الدولية تستوجب التدخل. السؤال هنا يذهب إلى الفلسطينيين والعرب قبل غيرهم، فهل طبيعة التعاطي مع هذا الملف، تفرض على المجتمع الدولي أن يبحث عن حلول جدية؟ الجواب بالقطع سلبي، ما يعني أن على الفلسطينيين أولاً والعرب ثانياً أن يبحثوا ويعملوا على استظهار مخاطر استمرار التجاهل الدولي لهذا الصراع.
لا نتحدث عن حروب ولكن أيضاً لا نتحدث عن تصريحات عنترية وإنما نتحدث عن قائمة ليست قصيرة من الواجبات التي تؤدي إلى تغيير واقع الحال بالقدر والكيفية التي تستفز الآخرين للتدخل لحماية مصالحهم، وحتى لحماية إسرائيل من جنونها.