في هذا اللغط حول سايكس ـ بيكو جديدة

16qpt699
حجم الخط

فجأة وبدون سابق إنذار، توالت التصريحات الروسية والأمريكية الرسمية، المشوبة بقدر من الغموض، حول احتمال أن تتحول سوريا إلى دولة فيدرالية. ولأن الأمريكيين والروس هم رعاة عملية الحل السياسي، الماضية ببطء وتعثر كبيرين، للأزمة السورية، كان لابد أن تؤخذ مثل هذه التصريحات مأخذ الجد. ما أشير إليه بقدر من الغموض من لافروف وكيري، أصبح أكثر وضوحاً في حديث المبعوث الدولي لسوريا، دي ميستورا، لقناة الجزيرة الإخبارية (10 آذار/مارس)، (وحديث وزير الدفاع الإسرائيلي لمعهد ويلسون بعده بأيام قليلة). يعي دي ميستورا، هو أيضاً، خطورة ووقع التطرق لأي مستوى من التقسيم في سوريا، ولذا فقد بدأ حديثه برسالة إيجابية، مشيراً إلى أن السوريين مجمعون على بقاء بلدهم موحداً. ولكن المبعوث الدولي أنهى معالجته للموضوع بما يناقض هذه المقدمة الإيجابية، مؤكداً على أن فدرلة الدولة السورية ستطرح على طاولة مباحثات الأطراف السورية في جنيف.
ما يتردد، بهذه الصيغة أو تلك في تصريحات مسؤولين مثل لافروف وكيري ودي ميستورا، يجد صداه في أوراق تعد في مراكز أبحاث غربية حول سوريا أو العراق، أو في قراءات مختصين ومسؤولين سابقين غربيين؛ حيث أصبح شائعاً القول أن الشرق الأوسط يحتاج سايكس ـ بيكو جديدة.
تشمل المباحثات لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية، المفترض أن تبدأ من جديد يوم الإثنين 14 آذار/مارس، وفدي نظام بشار الأسد وقوى المعارضة السورية. وإلى جانب هؤلاء، ثمة عدد من الشخصيات المستقلة، التي اختارها المبعوث دي ميستورا، الحكم الرئيسي خلف عملية التفاوض. والمدهش في الطرح الفيدرالي لمستقبل سوريا أنه لم يولد في أوساط الطرفين السوريين، المعنيين الأوليين بحل الأزمة، وطرفي الأزمة الأصليين، ولا حتى في أوساط من يعرف بالمعارضين المستقلين. باستثناء الاتحاد الديمقراطي الكردي، ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا، لم ترد فكرة الفيدرالية في أي تصريح أو وثيقة سياسية لأي من قيادات نظام الأسد أو قيادات وشخصيات المعارضة، عسكريين كانوا أو سياسيين. ترى الأغلبية السورية نظام الأسد، الذي يمثل استمراراً لنظام أبيه، باعتباره سلطة حكم طائفية، يمثل العلويون مركز ثقله وعصبيته الرئيسية. ولكن الثورة السورية لم تندلع لأسباب طائفية، أو، على الأصح، أن البعد الطائفي للنظام لم يحتل أولوية هموم السوريين الذين خرجوا بمئات الآلاف في شوارع مدن وطنهم في آذار/مارس 2011، مطلقين شرارة الثورة الأولى. الطبيعة الاستبدادية للنظام، سياسات القهر والسيطرة، التي اتبعها النظام ومؤسسات الحكم الأمنية، كانت هدف الثورة الأول والأبرز. وطوال أعوام الثورة السورية الخمسة الماضية، لم تطرح سمة النظام الطائفية إلا باعتبارها إحدى ركائز الاستبداد والتسلط والطبيعة الأقلوية لنظام الحكم. في المقابل، ما يطالب به السوريون ليس إقامة نظام الأكثرية السنية، بل حكماً حراً وعادلاً للسوريين جميعاً.
كان يمكن أن لا تتحول الثورة السورية إلى ما يشبه الحرب الأهلية والأزمة الإقليمية ـ الدولية التي هي عليها الآن. لو أن القوى الإقليمية والدولية توافقت على دعم حركة ومطالب الشعب السوري، ومساعدة السوريين على الانتقال ببلادهم إلى حكم ديمقراطي، يحتض كافة فئات الشعب وقواه، ما كان للأزمة السورية أن تستمر لخمس سنوات دموية. ولكن القوى الكبرى، بصورة أساسية، إلى جانب القوى الإقليمية، انقسمت حول سوريا، بين مؤيد للنظام ومؤيد للثورة الشعبية. بكلمة أخرى، يبدو أن طرح فكرة الفيدرالية يأتي اليوم لحل معضلة انقسام الخارج حول سورية، وليس لتحقيق مطلب سوري. تماماً كما أن سايكس – بيكو كانت اتفاقية لحل مشكلة التنافس وصراع النفوذ بين قوى الحلفاء في الحرب العالمية الأولى.
تمر هذا الربيع الذكرى المئوية الأولى على توقيع اتفاقية سايكس ـ بيكو، التي لا يوجد تلميذ مدرسة واحد في البلدان العثمانية السابقة إلا ويذكرها بقدر من الكراهية والشعور بالمهانة. وسايكس ـ بيكو هي، في الحقيقة، اسم رمزي (كودي) لثلاث اتفاقيات، وضعت أسس فكرة تقسيم الدولة العثمانية بين القوى الأوروبية المتحالفة في الحرب العالمية الأولى. الأولى، وسميت باتفاقية القسطنطينية، وقعت في العاصمة الروسية سان بيتربرغ في ربيع 1915، وتضمنت موافقة كل من بريطانيا وفرنسا على منح المضايق العثمانية وسواحلها الأوروبية والآسيوية (بما في ذلك اسطنبول) لروسيا. ووقعت الثانية في العاصمة البريطانية، لندن، بعد عام على الأولى، في ربيع 1916، وتضمنت تقسيم ولايات الأغلبية العربية وجنوب الأناضول، بين فرنسا وبريطانيا؛ وهي التي عرفت باسم مفاوضيها، مارك سايكس وجورج بيكو. أما الثالثة، والتي عرفت باتفاقية سان جين دي موريين، ووقعت في منتصف 1917، فتضمنت موافقة بريطانيا وفرنسا على منح إيطاليا منطقة جنوب غرب الأناضول (أي أنطاليا الحالية)، مقابل التحاق الأخيرة بمعسكر الحلفاء في الحرب. لم تتوقف الأمور هنا، فبعد استسلام معسكر الوسط، بلغاريا والنمسا والسلطنة العثمانية وألمانيا، وإعلان نهاية الحرب، وافقت بريطانيا وفرنسا على سيطرة اليونان على إزمير العثمانية وجوارها في 1919، وهي الخطوة التي أشعلت حرب الاستقلال العثمانية بقيادة مصطفى كمال ضد احتلالات دول الحلفاء المختلفة لمعظم ما تبقى من السلطنة العثمانية.
لم تتحول اتفاقيات الحلفاء السرية خلال سنوات الحرب إلى واقع، بفعل انسحاب روسيا من الحرب بعد الثورة البلشفية في 1917، وحرب الاستقلال العثمانية، وتراجع بريطانيا عن تعهداتها لفرنسا في سايكس ـ بيكو. ولكن فكرة تقاسم الغنيمة لم يتم التخلي عنها. نجحت حرب الاستقلال العثمانية في تحقيق حرية واستقلال المنطقة التي تبقت من السلطنة بعد هدنة مدروس، وهي التي تحولت إلى الجمهورية التركية. ولكن هذا النجاح لم يحم تركيا كلية من عواقب سياسة التجزئة الإمبريالية لممتلكات السلطنة الأخرى، التي تحولت إلى عراق وسوريا ولبنان وأردن وفلسطين، ووزعت بين بريطانيا وفرنسا. وكما هو الجدل الذي أطلق حول مستقبل سوريا (وقبلها العراق) مؤخراً، لم يكن لأهل البلاد العثمانية من قول في الطريقة التي قسمت بها أوطانهم، ولا كان لهم من علاقة أصلاً بولادة فكرة التجزئة. ولد نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى من اصطدام أطماع الإمبرياليات الأوروبية، ومحاولة كل منها، من ثم، تحقيق أهدافها الاستراتيجية في المشرق عبر عملية تفاوضية وبروح تقاسم غنائم الحرب. وكانت العواقب كارثية على المشرق وأهله، حتى بعد تحقيق دوله الجديدة لاستقلالها.
ولدت دول ما بعد السلطنة العثمانية كوحدات عشوائية، بدون أن تحمل كل منها عوامل الاستقرار والازدهار؛ وولدت والشك يراود الواحدة منها تجاه الأخرى. وسلمت مقاليد حكم هذه الدول لجماعات أقلوية، اجتماعية أو طائفية أو عسكرية، بدون أن تستند إلى أسس صلبة بما يكفي لتطور أنظمة حكم ديمقراطية، تعبر عن إرادة الأغلبية الشعبية. ولأن نظام ما بعد الحرب الأولى استبطن فكرة الدولة القومية، فسرعان ما ولد مسألة كردية، أصبحت عامل عدم استقرار بعيد المدى وباهظ التكاليف في كافة دول المشرق. أما كارثة الكوارث فكان تأسيس دولة للمهاجرين اليهود في أرض فلسطين.
لم تزل عواقب فكرة التقسيم والتجزئة التي صنعت نظام ما بعد الحرب الأولى تطارد دول المشرق وشعوبه، فقداناً للاستقرار والازدهار، وسلسلة من التدافعات الأهلية، وحرباً بعد الأخرى. العودة إلى سياسة التقسيم والتجزئة لحل أزمات صنعها نظام ما بعد الحرب الأولى لن تؤدي إلا إلى مزيد من عدم الاستقرار والصراعات الأهلية والحروب وفقدان المعاش.