أفاق العالم يوم الثلاثاء الماضي على خبر إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب قواته الرئيسية من سورية، خلال اجتماع عقده مع وزيري دفاعه وخارجيته وبالتشاور والتنسيق مع القيادة السورية لجهة عودة القوات الروسية إلى موسكو.
هذا القرار اعتبر مفاجئاً لدول كثيرة مؤثرة وغير مؤثرة في النزاع السوري، خصوصاً وأنه تزامن مع انطلاق جولة جديدة من المفاوضات السورية- السورية تعقد في جنيف حالياً، وكونه ارتبط بمرور خمسة أعوام على النزاع السوري.
هذا القرار اعتبر مفاجئاً لدول كثيرة مؤثرة وغير مؤثرة في النزاع السوري، خصوصاً وأنه تزامن مع انطلاق جولة جديدة من المفاوضات السورية- السورية تعقد في جنيف حالياً، وكونه ارتبط بمرور خمسة أعوام على النزاع السوري.
لماذا هذا القرار وما الهدف منه؟ هذا سؤال تداولته المؤسسات الإعلامية وانخرط الكتاب والمحللون في الإجابة عنه، كل في إطار رؤيته للملف السوري، غير أن ما يهم الانتباه له هو أهمية ربط التحليل بموقف القيادة الروسية التي شخصت أسباب انسحابها من سورية.
أولاً ينبغي الإشارة إلى أن روسيا ما تزال حاضرة وستبقى كذلك في سورية، إذ أن الرئيس بوتين تحدث صراحةً عن انسحاب جزئي وليس كلي، بينما ذكرت المؤسستين السياسية والعسكرية أن القاعدتين العسكريتين الروسيتين في حميميم وطرطوس ستبقيان لخدمة الأهداف الروسية.
إذاً هو انسحاب جزئي مقترن ببقاء منظومتي الصواريخ الدفاعية اس 300 التي بحوزة القوات الحكومية السورية، فضلاً عن منظومة اس 400 التي تحوزها روسيا في الشام وتستهدف تأمين مناطق جوية واسعة بهدف اعتراض المقاتلات التي من شأنها إرباك الروس والسوريين.
تخفيض القوات الروسية جاء بعيد الاتفاق الروسي- الأميركي على وقف العمليات القتالية في سورية والدفع قدماً في استكمال المسار السياسي الذي تعثر في جولة جنيف الأولى قبل أقل من شهرين، خصوصاً وأن قراراً صدر عن مجلس الأمن يدعم الاتفاق ويثمن الذهاب نحو الحل السياسي.
يبدو على هذا الأساس أن بوتين أوعز لوزير الدفاع بسحب عدد من الطائرات إلى روسيا، والاكتفاء بوجود مقاتلات تستهدف ما أكده «الكرملين» ضرب تنظيمي «داعش» و»جبهة النصرة» الإرهابيين، والتأكد من سريان وقف إطلاق النار.
ثم إن القيادة العسكرية الروسية كانت قد وضعت مهلة زمنية للبقاء في سورية بين ثلاثة إلى ستة أشهر، ابتداءً من تاريخ وجودها في شهر أيلول الماضي، وقد يفهم من قرار بوتين هذا أنه ملتزم بأجندة اهتدى عليها للتعامل مع الملف السوري.
وعلى كل حال ليس هذا ما يتعلق بالانسحاب الجزئي الروسي فحسب، بل إن السبب الرئيسي يكمن في أن روسيا حققت أهدافها في سورية، اتضح ذلك في أمرين، الأول أن روسيا جاءت في الأساس لدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد والحيلولة دون انهياره.
لقد شعرت روسيا قبل تدخلها العسكري أن الأمور تسير باتجاه إنهاك القوات الحكومية السورية واحتمال انفراطها، في إطار توزعها في مناطق تسيطر عليها تنظيمات متطرفة ومعتدلة، الأمر الذي استدعى تدخلاً روسياً لإنقاذ سورية من ورطة الفشل العسكري.
أضف إلى ذلك أن الوجود الروسي أسهم بالفعل في إقواء نظام الرئيس الأسد، بدليل أن القوات الحكومية السورية تمكنت من التقدم والسيطرة على 30% من مناطق كانت خاضعة لسيطرة تنظيمات أخرى، ولم يكن في واردها الموافقة على قرار وقف إطلاق النار لولا الضغط الروسي.
العامل الآخر يتعلق بالموقف الروسي الرافض تماماً لفكرة إقامة منطقة عازلة فوق الأراضي السورية، والتواجد العسكري الروسي جاء لإجهاض هذا المشروع الذي كانت تركيا تسعى إلى تسويقه على الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الدولي.
الروس كانوا يخشون من تدخل تركي في الملف السوري، وهذه واحدة من الأسباب التي دعت موسكو للتواجد في سورية، ذلك أن إسقاط تركيا لطائرة عسكرية روسية فوق الأراضي السورية، جعل موسكو تتعامل بحزم شديد مع أنقرة، تجلى ذلك في منعها تماماً من التحليق الجوي حتى بالقرب من الحدود السورية- التركية.
إزاء كل ذلك، تشعر موسكو أنها حققت أهدافها وأن وجودها الكامل لا يفيد في شيء، لذلك استثمر بوتين هذه الفرصة التي تتزامن مع مفاوضات جنيف، لإعلان الانسحاب من سورية، على أمل الدفع قدماً نحو إنجاحها وإحراج الولايات المتحدة بضرورة الضغط على أطراف المعارضة للانخراط في المفاوضات بدون شروط.
وعلى كل حال، يبدو أن القرار الروسي جاء بتنسيق وتعاون مع الحكومة السورية، ومن المستبعد أن يعني وجود خلافات بين البلدين، وإلا لماذا تبقى روسيا حاضرة سياسياً وعسكرياً في سورية، ثم لماذا تقرر موسكو رفع اليد عن دمشق بعد مرور خمسة أعوام على نزاع صعب ومعقد؟
إن روسيا تدرك أن خروجها من سورية يعني رحيلها بشكل كامل عن الشرق الأوسط، فقواعدها الموجودة هناك تشكل إطلالة وموطئ قدم بالنسبة لها في منطقة الشرق الأوسط، وأي غياب سيعني وجود فراغ قد تملأه قوى دولية أخرى.
أيضاً يجوز القول إن الانسحاب الروسي جاء بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية، وضمن اتفاق سري بين البلدين لمعالجة الملف السوري، فقد أكدت موسكو من سورية أنها دولة لها ثقل واضح في موازين القوى الدولية وهناك فرضت عضلاتها وبينت حجم إمكاناتها العسكرية.
القصد من ذلك أن شيئاً ما يحدث بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، إذا ما ربطنا ذلك بالتوافق على خريطة الطريق التي صدرت عن مجلس الأمن الدولي لتسوية الأزمة السورية، يضاف إليها اتفاق وقف إطلاق النار في سورية، فإن كل ذلك يشكل مؤشرات على نضوج الإرادة الدولية لحل الأزمة السورية.
وبطبيعة الحال سيؤثر هذا الانسحاب على طبيعة المفاوضات الجارية الآن، ومن المحتمل أن نسمع في الأشهر القريبة المقبلة عن تسوية سياسية للأزمة السورية عنوانها المحاصصة وتقاسم السلطة، انسجاماً مع إعادة تشكيل النظام الدولي الذي تبرز فيه كل من واشنطن وموسكو على وجه التحديد.
هذا قد يكون هو التحليل الأنسب لموضوع الملف السوري، اللهم باستثناء إذا لم يتفق الكبار بعد على توزيع الحصص، وقرروا مواصلة مرحلة تكسير العظم في المستنقع السوري والأوكراني وبعض المناطق الأخرى التي تشهد نزاعاً دولياً بين هؤلاء.
ربما أيضاً يكشف الانسحاب الروسي الجزئي أن الحل العسكري لم يعد يجدي في إطار التوافق الدولي على تثبيت الهدنة، وأن الأمل يبقى معقوداً في جنيف حيث النقاش السياسي الساخن وحيث يمكن أن ينضج هذا الحل باتجاه صيغة توافقية تجنب سورية المزيد من التناحر.