لا تحاول أن تسمح لنفسك أن تفكر بالأمر، أو حتى أن تفسح لخيالك لحظة أن يعتبرهم مجرد مجازفين، ليسوا كذلك يا رفيقي، ليسوا كذلك أبدًا، إنهم لم يكونوا يومًا عابرين ولا راغبين بالتجربة، لأنها ببساطة ليست تجربة!، كما أنهم أكبر من أن يمتنحوا التجارب أمام الحقيقة الكبرى والأولى.
هذه المرة علينا أن نعترف أنهم وعوّا الحقائق قبلنا، وأنهم أول من يصل لأنهم أكثر من صدق، لقد عبروا الزمان قبلنا وعشقوا المكان أكثر منا، وصلتهم الحقائق بالصفو بالمحبة والوطنية الفذة التي تدفع معتنقيها إلى الرحيل من أجلها بشكل ليس له مثيل، لقد عرفوا حقًا أن الحقيقة الوحيدة هي “الوطن” وأن ما دونه لا يستحق، وأن الجنة نهاية طريقه التي مشوه حتى آخره.
مرة تلو الأخرى، أسائل نفسي كيف تهون عليهم أنفسهم وأعرف أن كثيرًا منكم سيجيبني أن “الوطن أغلى من النفس” لا نقاش في ذلك ليس هذه نقطة المفارقة، جميعنا يتحدث باسم الوطن، لكن أن يمضي أحدنا إلى حتفه وهو يعلم أن كل ما تبقى له في حياته بضعة أنفاسٍ ومقاومة، تلك معجزة تستعصي على الفهم!
بعد تنفيذ العمليات الفدائية تبدأ وسائل الاعلام والناس “العاديين” أمثالنا البحث عن صاحب المجد وعن معلومات تتعلق باسمه، “ما اسم الشهيد؟ هل له صورة، أين يسكن وما هي تفاصيله؟” وبما أنني صحفية أيضًا فان هذه الأسئلة المعتادة تبدو في انتظار الإجابة بعد كل عملية حتى يظهر لاحقًا حسابه الفيسبوكي وتفاصيل نهايته لا سيما “كتابة الوصية الأخيرة”
هل جربت يومًا أن تكتب وصيتك؟ دعنا من محاولات الكتابة المثالية والتوصيات التقليدية ومحاولة زخرفة الورقة، أو الاطمئنان لأجل غير معلوم، أقصد بسؤالي هل جربت أن تعيش اليوم فقط! وأنت تثق تمامًا أنه اليوم الأخير، مع التأكيد على أن هذا اليوم لم يكن نتيجة ضغط أو اكراه أو كره للدنيا والحياة.
أن تعيش لحظاتك كأنها اللحظة الأخيرة فعلا، وأن تخطط لنهاية مثلى تنقلك بطعنة سكينٍ أو رصاصة سلاح إلى مستقر آخر تماما، وبينما تنقلك هذه الطعنة الفدائية من مكان إلى آخر سرمدي، يتحول اسمك من الفدائي إلى الشهيد، لكنك بكل الأحوال تبقى وطنيًا خالدًا.
وفي كل مرة نقرأ فيها وصايا الشهداء نصاب بحالة غير مفهومة من التساؤل الغريب، متى كتبت؟! وما الذي دفعه لذلك؟! كيف أيقن الحقيقة مبكرًا جدًا؟! فيما نحن جبناء وعاجزون وضائعون عن الحقيقة والطريق، أتحجج أمام نفسي أن الحقيقة التي وعوها فرض كفاية لا فرض عين وأن الوصية الأخيرة قبل الرحيل الحقيقي فرض انتقاء فقط!.
كتب شهيدنا مؤخرًا لوالديه ليسامحوه، وقد نالوا الشرف العظيم به، طالبًا أن يذكروا مساوئه ليسامحه الناس عليها ولم يعلم أن الناس لا يذكرون له إلا كل خير، أشخص بهذا القلب العظيم والصدق الجميل له مساوئ مثلنا؟ اضافة إلى تسديد ديونه التي لا تتجاوز الـ60 شيكلا، يا الهي مما يخاف وعلم يوصي، لا شيء أكبر من ذلك في حياته البسيطة.
تذكّر معي، ثلاثة نماذج حقيقية نستشهد بها على صحة كلامي استشهدوا جميعهم في يومٍ واحد وحالات مماثلة، فالشهيد بشار محمد مصالحة الذي ارتقى بعد تنفيذ عمليته مؤخرًا كان قد عاد من العمرة قبل تنفيذ عمليته بيومٍ واحد، هل تعلم ماذا يعني ذلك، لقد اختار النهاية المثل بعد عودة طيبة، لقد اختار أن يموت كما يحب.
وككثير من الحالات المطابقة التي تشهدها مواقع التواصل، فقد نشر الشهيد فؤاد التميمي “آية الشهداء” على صفحته الشخصية قبل تنفيذ العملية بساعات، لقد اختار النهاية التي قرأها ونفذها، قرر أن يبقى حيًا للأبد.
أما الشهيد الفتى عبدالرحمن رداد، فلم تكن خياراته متسعة على ما يبدو، لكنه قرر أن يكون يوم ميلاده الـ17 هو اليوم الذي سيقضيه في الجنة هذه المرة، يا إلهي كيف يفكر طفل في قضاء يوم ميلاده بهذه الدرجة من التميز، ألم نقل سابقًا إنها معجزة تستعصي على الفهم، هذا ما يسمى بفن الشهادة!
يا رفيقي، من قال إن الشهداء لا يفكرون مليًا قبلها؟ هل تعتقد أنها لحظة تهور وجنون، أم أن إساءة الدنيا دفعته للنيل منها بالهروب إلى الرحيل الأبدي؟، إطلاقًا، يخططون كثيرًا لموتتهم، هل حاولت التفكر يومًا كيف يتسنى لكَ أن تموت؟! هذا ما فعلوه هم.