من وطن أرضه نور وسماؤه نور وكل ما فيه نور على نور أكتب لكم رسالتي. في جنة الله، فوق السماء السابعة، خلف صفوف الأنبياء وتحت ظل أجنحة الملائكة تمتد رمال من حرير وخرز تزينها أشجار من بلور، يجري في يمينها نهر من خمر وآخر في يسارها من عسل مصفى، وبين النهرين أريكة من ديباج باطنها من إستبرق، على الأريكة يجلس ثلاثة أطفال لوجوههم نور، تطفو على خدودهم حمرة كرزية، وأسنانهم كاللؤلؤ، ولهم أجنحة ملونة شفافة وبراقة، أصفر، أزرق، وأخضر، هي ما تميز الواحد عن الآخر.
رائحتهم المسك وغناؤهم مزامير داوود، يرهف أذن السامع ويطرب الوجدان فتثمر على إثره أزهار من كل لون لها شكل قلوب، عبروا سبع سماوات وشربوا من ماء بحيرة الحكمة المقدسة، ففاض عقلهم حكمة وطاب لسانهم أدبا واغتسلت قلوبهم من هموم وأدران الدنيا.
وقفت أمامهم بوجه تزين بالحسن وثوب من الزهر، وكنت أفكر إذا رأيت صورتي في ماء النهر وأدركت كم زاد الآن فتنة: أصورتي انعكاس لجمال وفتنة الجنة أم أن الجنة أخذت فتنتها وجمالها مني؟ فأطرب بصوت كالعصفور: "سبحان الله".
كانت حياتي في الدنيا مليئة بالتناقضات، فرح ممزوج بالآهات ودمعة معطرة بالبسمة. ارتقيت إلى هنا قبل هؤلاء الأطفال، ولطالما سحرت بغنائهم فتحدثت إليهم قابضة على قلمي والورقة:
"وبعد أن انطوى كتاب أجلنا في الدنيا وغادرنا أوطاننا الدنيوية وأحباء يملؤون قلوبنا لذة وحبورا وأدركنا أن وراء الدنيا ألف معنى فأشرقت في أنفسنا الشموس وزينت ثغرنا الابتسامة، هلا كشفتم لي عن عالمكم السابق وحدثتموني عنه وعن أحلامكم وعن حال الأرض بعد غيابي؟"
بدأ الطفل ذو الجناح الأصفر بالحديث فقال:
"كنت يا سيدتي في بلاد سمراء جف ماؤها وانتشر الوباء فيها، وكنت هزيلا بما يكفي لأكسر، حتى كادت عظامي أن تنشق عن صدري، كان الذباب صديق هوائنا وكسرة الخبز عيد ميلادنا، وكنت أشفق على أمي إذا قدمت حصتها من الطعام الفقير لي، وباتت في الجوع الذي أعرفه تماما.
تناقل العالم صورنا على شاشات التلفاز وأوراق الصحف والمجلات نستجدي دموع الرحمة أن تلامس قلوب البشر ممن باتت موائدهم لها بداية وما لها نهاية، يلتهمون أرطال اللحم وعناقيد العنب ويلقون الفائض في قالب النفايات بعد استدارة بطونهم>
وهناك من أغمضوا أعينهم عنا يشترون بجرار الذهب والمال أسلحة الدمار، فيكسرون بابا ونافذة وجذع نخلة عوضا عن بناء خلية حية في أجسادنا، وكم كنت أتمنى يا أصدقاء لو تمطر السماء دمى سمينة جدا محشوة بالجوز والفاكهة".
ثم وجه حديثه للطفلين: "وماذا عنكما؟"
قال الطفل ذو الجناح الأزرق:
"أما أنا فكان لي ستة أخوة، نسكن مع والدتي في دار صغيرة، أما والدي فشهيد اغتالت روحه يد الطغيان والاحتلال الآثمة، رضعت صوت الرصاص مع شهد صدر أمي وكبرت على رماد النار. كانت أمنيتي أن أكون كأي طفل آخر في العالم، فلم أكن مثلهم ولا يمكنني وصف ما كنت عليه في حروف>
أقسم لكم، ووحده الله يعلم، كيف انقضت ليالينا وأيامنا، فكان إذ ارتفع صوت القصف مساء تجمعنا حول أمي فتردد: "لا تخافوا إن الله معنا".
و في يوم من أيام انتفاضة الأقصى خرجت ابحث عن اثنين من إخوتي المشاركين فيها دون علم والدتي، كنت أصرخ باسمهما ولم أعلم ما حدث لي بعدها.
رأيت نفسي ممتدا أرضا في دارنا وكوب الشاي لم يبرح مكانه كما غادرت وكتابي كما وضعته لم تقلب صفحاته ولم يمسسه أحد، وإخوتي حولي يذرفون الدمع، لم أفهم لماذا.
رغبت في الكلام والحديث إليهم لكن بلا جدوى، فما من مستمع، حتى رأيت طيف والدي يشع نورا ويضمني إليه، ففهمت حينها أن نار العدو استقرت في صدري وفارقت الحياة.
دنت أمي مني صامتة حزينة، تكابد إخفاء الدمع وفي صدرها تصارع الآهات، ضمتني وقبلتني أكثر من عشر قبل ومسحت على وجهي ورأسي.
اطمأننت لسلامة أخويّ فما زالا على قيد الحياة يحلقان حول أمي، نظرت لوالدي أرجوه العودة لأجل أمي، أقبل كفها وأنعم بحضنها لآخر مرة. تبسم لي فالأمر ليس بيده فهناك وطن ينتظرني أجمل من حضن أمي".
قلت: "الويل لحروب عاثت في الأرض فسادا"، ثم أكملت مشيرة للطفل ذو الجناح الأخضر: "وأنت قص لي قصتك".
رد قائلا:
"أما أنا سأقص لكم ما لم تره عيون البشرية ورأته عين أم تألمت لحظة الفرح، حين قدمت إليها هبة من مولى السماء فكيف بها في عين الفقد، وأنا لم أبلغ بعد سن الهموم؟
بعد مغادرتنا للوطن وأثناء هجرتنا عبر البحر كانت الأمواج عالية والمركب يغرق، فنمت جوار أمي في عرض البحر تمد لي صدرها مركبا، حتى رفرفت بأجنحة من بياض إلى النور السماوي، مزيحا عني ثقل الدنيا، راقدا في الصدور والعيون والكلمات دمعة، دمعة يأس لا حول لها ولا قوة، دمعة حزن وشقاء وإجهاضا للإنسانية، فأشفقت على قلب أمي الرقيق الغارق في معنى الفقد، الباحث عن جوهر رحمة.
وما كان حالي أسوأ من حال رفيقيّ أو ممن غابت عنهم شموس أوطانهم من الشريدين والمطرودين من بني وطني وغيرهم في بقاع الأرض، ممن باتوا حفاة عراة يلتمسون يدا حانية تمتد نحوهم، ماضين للمجهول على أرض غير التي أدركوها، مخلفين وراءهم أحلاما تهالكت كما تهالك بنيان وطني.
كنت أحلم أني شجرة صغيرة تقول لها نجمة المساء: جذورك قوية راسخة، ومياه السماء غزيرة، وغدا تورقين وتثمرين. فباتت تكبر على الأمل يوما بعد يوم حتى هلكت بريح صرصر عاتية، وغدت أرضها كالصريم. وانكشفت لي في البحر عين الحقيقة، لقد ضاعت الدنيا وهلكت الفضيلة".
قال الطفل ذو الجناح الأصفر: "ولا زالت قصصنا تتكرر في الأرض يا سيدتي والكثير من الأطفال يصعدون إلى السماء".
قلت مبتسمة:
"إن الأرض تئن من الألم، ولا سبيل لعلاجها إلا بالحب، حب حقيقي كالذي غمرنا الله به وأدخلنا به جنته فأنار قلوبنا وأنفسنا وصورنا، واستضاءت صدورنا بحبه، فكان نور حبه كفيلا بإنارة الأرض، سهولها وجبالها، فكان غناؤنا وصلاتنا ودعاؤنا وجل أمرنا بالحب وللحب.
ولو آمن جميع أهل الأرض بالحب واتخذوه دينا واتبعوه منهجا وسبيلا فامتلأت قلوبهم حبا ثم سمو به إلى النور السماوي حيث لا تجتمع ظلمة مع نور لفاضوا حبا على الكون وتوقفت قصصكم عن التكرار.
إن الرحمة والسلام والأمان وكل المبادئ الجميلة التي انقضت آجالنا في الدنيا لغيابها والتي نصلي خلف الأنبياء لأجل أن تتحقق متشعبة من المحبة، وغافية تحت جناحها، تستظل بظلها كما تستظلون بأجنحة الملائكة، ومتى رفرف جناح الحب أفاقت معه، ولعاش الناس حينها في نعيم وجنة كحالنا الآن".
صاحوا وهم يشيرون إلى مجموعة من الأطفال لها هالة من نور، عبرت بوابة الجنة واتجهت صوب الأنبياء: "ها هي مجموعة جديدة ارتقت للسماء".
طويت الرسالة وهممت بمغادرتهم، فقال الطفل ذو الجناح الأخضر: "ألن تكتبي قصة الأطفال الجدد، وتقصي لنا قصتك؟"
قلت: "تختلف بداية قصة كل طفل منكم لكنها تلتقي في نقطة واحدة، أما قصتي فسأرويها في رسالة ثانية. والآن لقد جف قلمي وطويت رسالتي، الرسالة ستحمل قصصكم وأحلامكم السالفة والحاضرة وحلم كل طفل في الأرض وفي السماء، سأبعثه إلى كل مهموم وحزين في الأرض علّه يجد في حديثنا هذا سلوى له مما هو عليه من الحزن، وعلهم يمدون أيادي المحبة إلى بعضهم البعض فتكون إجابة صلاتنا، وسأسميها رسالة أطفال السماء".