تفسير سورة الكوثر

108 - سورة الكوثر
حجم الخط

الكوثر : فَوْعل من الكثرة ، مثل النَّوْفل من النفل ، ومعناه : الشئ البالغ فى الكثرة حد الإِفراط ، والعرب تسمى كل شئ كثر عدده ، وعظم شأنه : كوثرا ، وقد قيل لأعرابية بعد رجوع ابنها من سفر : بم آب ابنك؟ قالت : آب بكوثر . أى : بشئ كثير .
قال الإِمام القرطبى ما ملخصه : واختلف أهل التأويل فى الكوثر الذى أعطيه النبى صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولاً : الأول : أنه نهر فى الجنة ، رواه البخارى عن أنس ، ورواه الترمذى - أيضاً - عن ابن عمر . . الثانى : أنه حوض للنبى صلى الله عليه وسلم فى الموقف . . الثالث : أنه النبوة والكتاب . . الرابع : أنه القرآن . . الخامس : الإِسلام .
ثم قال - رحمه الله - قلت : أصح هذه الأقوال الأول والثانى ، لأنه ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم نص فى الكوثر . . وجميع ما قيل بعد ذلك فى تفسيره قد أعطيه صلى الله عليه وسلم زيادة على حوضه . . .
وافتتح - سبحانه - الكلام بحرف التأكيد ، للاهتمام بالخبر ، وللإِشعار بأن المعطى شئ عظيم . . أى : إنا أعطيناك بفضلنا وإحساننا - أيها الرسول الكريم - الكوثر ، أى : الخير الكثير الذى من جملته هذا النهر العظيم ، والحوض المطهر . . فأبشر بذلك أنت وأمتك ، ولا تلتفت إلى ما يقوله أعداؤك فى شأنك .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والمراد بالصلاة : المداومة عليها .
أى : ما دمنا قد أعطيناك هذه النعم الجزيلة ، فداوم على شكرك لنا ، بأن تواظب على أداء الصلاة أداء تاما ، وبأن تجعلها خالصة لربك وخالقك ، وبأن تواظب - أيضاً - على نحرك الإِبل تقرباً إلى ربك . كما قال - سبحانه - { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين . لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } ثم بشره - سبحانه - ببشارة أخرى فقال : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } والشانئ : هو المبغض لغيره ، يقال : شَنَأَ فلان شَنْئاً ، إذا أبغضه وكرهه .
والأبتر فى الأصل : هو الحيوان المقطوع الذنب ، والمراد به هنا : الإِنسان الذى لا يبقى له ذكر . ولا يدوم له أثر . .
شبه بقاء الذكر الحسن بذنب الحيوان ، لأنه تابع له وهو زينته ، وشبه الحرمان من ذلك ببتر الذيل وقطعه .
والمعنى : إن مبغضك وكارهك - أيها الرسول الكريم - هو المقطوع عن كل خير ، والمحروم من كل ذكر حسن .
قال الإِمام ابن كثير : " كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له ، فإذا هلك انقطع ذكره ، فأنزل الله - تعالى - هذه السورة " .
وقال السدى : كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا : بتر ، فلما مات أبناء النبى صلى الله عليه وسلم قالوا : بتر محمد فأنزل الله هذه الآية .
وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر إذا مات انقطع ذكره ، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه ينقطع ذكره ، وحاشا وكلا ، بل أبقى الله ذكره على رءوس الأشهاد ، وأوجب شرعه على رقاب العباد ، مستمرا على دوام الآباد ، إلى يوم الحشر والمعاد ، صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الثناد . . .
نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من أهل شفاعته يوم القيامة .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .