لا عزاء لنا في ما بلغته الحالة الفلسطينية من تراجعات مخيفة، مماثلة لتلك التي بلغتها الحالة العربية من تجذر وتغول ممارسات ومسلكيات القمع والاستبداد والإرهاب، مع تغول النظام/ الأنظمة الرسمية في عدائها واستعدائها لشعوبها ولمجتمعاتها، والقفز بالسياسة نحو المجهول، ومصادرتها وتغييب الحقوق الدستورية والمدنية، ومنع التعبير عن الرأي أو المطالبة بسلسلة المطالب والحقوق المطلبية والنقابية، بعد أن تم تكريس تغييب الممارسة السياسية، وبات المجتمع أكثر انكشافاً لأجهزة القمع الأمنية في تشابكاتها وتقاطعاتها مع قوى الاحتلال، تحت راية التنسيق الأمني.
ما يجرى في فلسطين اليوم، ليس تعميقاً لانقسام سياسي أو جغرافي، بل تعميق لغياب أو تغييب المركز الناظم للحركة الوطنية الفلسطينية، وانزياحه عن دوره المفترض، في وقت يجرى فيه تغييب إرادة المواطن الحر، ومصادرة حقه في التعبير والممارسة السياسية، وتحميله أعباء عجز نظامه السياسي عن القيام بواجبه الدستوري داخلياً، والتحرري في مواجهة الاحتلال، كل هذا في وقت يتم فيه تكريس انقسام النظام السياسي، ومحاولة استفراد العدو بقسم من هذا النظام ودفعه بعيداً عن مجريات الصراع وإدارته، عبر إقامة هدنة طويلة، تكرس بدورها حالة الانقسام الجغرافي، في اتجاهات تساعد في سلخ قطاع غزة عن هويته الوطنية الفلسطينية، وإقامة هوية هجينة تعادي وطنية الشعب والهوية والإرادة والانتماء إلى وطن أكبر.
في المقابل، لا يمكن لسلطة نظام مهما بلغت حراجة موقفها، أن تكون أعلى أو أغلى أو أثمن من تلك الضرورة التي تحتمها الشرعية الدستورية، ووجود المؤسسات وصيانتها وحمايتها، ومن ضمنها التمثيل النيابي، للقيام بدوره التشريعي والرقابي، حماية لحقوق المواطنين، ومنعاً لتغول السلطة التنفيذية أو مراكز القوى فيها، ووضع حد لتدخلاتها أو الاعتداء على تلك الحقوق التي يكفلها الدستور، والقوانين الناظمة في الأنظمة التي يفترض أنها ديموقراطية شكلاً ومضموناً.
ولئن كان قد تم تفتيت المجتمع وقواه الحية في الأنظمة الاستبدادية، فإن اللجوء إلى هذه العملية في المجتمعات الواقعة تحت الاحتلال، يحمل من المخاطر ما لا حصر لها، ليس على السلطة أو المجتمع، بل وعلى القضية الوطنية برمتها، وعلى الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع المعني، من قبيل ما تتعرض له المجتمعات الفلسطينية تحت الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وفي الجليل والمثلث والنقب، وفي منافي اللجوء كذلك.
الأخطر أن تجد السلطة الفلسطينية ذاتها مدفوعة لسلوك ممارسات قمعية، ضمن مهمة التنسيق الأمني مع الاحتلال، من قبيل منع المتظاهرين من الوصول إلى مواقع التماس مع قوات ومستوطنات الاحتلال، أو التعبير عن مواقفهم واحتجاجاتهم ضمن فاعليات الهبة الشعبية، ومنع القطاعات العمالية والنقابية وآخرها تحركات المعلمين من التعبير عن آرائهم، وإبراز مواقفهم ومطالبهم القطاعية، ومحاولة اعتقال النائب نجاة أو بكر بأمر من النائب العام، وحصارها داخل المجلس التشريعي، ما يعد اعتداءً على صلاحيات المجلس وحصانة نوابه، من قبل أجهزة السلطة التنفيذية، وهي لا تتورع عن انتهاك الدستور، والاعتداء على مبادئ سيادة القانون، المفترض بالسلطة التنفيذية السهر على تطبيقها وتنفيذها، لا حماية المفسدين من أهل السلطة أو المقربين منها.
من أوجب واجبات السلطة الفلسطينية خصوصاً، في ظل معطيات وجودها تحت الاحتلال و «بالاتفاق» معه، احترام وحدة مجتمعها وحرياته وحقوق مواطنيها، حفاظاً على وحدة المجتمع وكل قواه السياسية لمجابهة الاحتلال، وهي المهمة الأبرز لحركة الشعب الفلسطيني الوطنية ومشروعه الوطني، الأمر الذي يستوجب وقف الممارسات القمعية واستعادة وحدة السلطة والمجتمع وكل القوى الحية، حفاظاً على ما تبقى من النظام السياسي الفلسطيني ومشروعيته الدستورية، بعد أن لم تعد أطراف هذا النظام جميعها للأسف، تعبأ بمشروعيته الثورية.
عن الحياة اللندنية