لاشك أن السيرة أو أجزاء كثيرة من أحداثها قد سجلها القرآن الكريم منذ مراحل الدعوة الإسلامية الأولى فمنها على سبيل المثال لا الحصر تسجيل واقعة تآمر كفار مكة للتخلص من النبي صلى الله عليه و أله و سلم في قوله تعالى "و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يخرجوك أو يقتلوك" (التوبة) وحدث اختباء النبي صلى الله عليه و آله وسلم هو و أبو بكر في غار "ثور" أثناء الهجرة في قوله تعالى "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" (التوبة) و أحداث غزوة بدر مثل قوله تعالى "و إذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال و الله سميع عليم, إذ همت طائفتان منكما أن تفشلا و الله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون" (آل عمران 121-122) و الآيات التي بعدها.
بل سجل القرآن كثير من الأحداث التاريخية التي لها صلة ما بالبعثة حتى ما كان قبلها مثل حادث الفيل المذكور في سورة الفيل, و معلوم أن مثل هذه الأحداث يحتاجها دارسو تاريخ العرب قبل الإسلام كما يحتاجها دارسو السيرة النبوية الشريفة.
و هكذا نجد تسجيلا لأحداث متعددة من السيرة و الغزوات في مثل سورة البقرة و آل عمران و النساء و الأنفال و التوبة و الأحزاب و الحجرات و الجمعة والجن و الفتح و غيرها.فأول من سجل سيرة النبي و المواقف المحيطة بهذه السيرة سواء كانت من قبل مسلمين أو كفار هو القرآن الكريم.و لم يكن تسجيل القرآن للسيرة هو تسجيلا محضا للأحداث بل اقترن بتحليلها و ذكر الدروس و العبر المستفادة منها.
ثم نجد أن السنة سجلت أحداث السيرة فقصة إسلام عمر أو إيذاء المشركين للمسلمين في مكة أو هجرات المسلمين للحبشة و المدينة كلها مجرد أمثلة على وجود تسجيل واسع النطاق للسيرة النبوية الشريفة في مختلف كتب السنة, و هو ما يعني أن الصحابة رضوان الله عليهم قد سجلوا السيرة إما بحفظها في صدورهم أو كتابتها في صحائفهم التي لم تكن يومها سوى سعف النخيل و قطع من عظام الحيوانات, ثم انتقلت منهم بعد ذلك لكتب السنة في عصر التدوين, و هي التي بين أيدينا الآن.
لكن في منتصف القرن الأول الهجري تشكل طور جديد من أطوار تسجيل السيرة و هو إفرادها بالتأليف و الرواية كأحداث تاريخية مع التركيز فيها على مجال الغزوات بجانب الصراع مع المشركين سواء فكريا أو عقائديا أو سياسيا, حتى شاعت تسمية هذا العلم وقتها بعلم المغازي (جمع غزوة) أو علم السير و المغازي, و أبرز من اشتهر بجمع مادة هذا العلم من مصادره المتاحة حينذاك هم:
عروة بن الزبير (ت 92هجري) و أبان بن عثمان (ت 105هجري) و وهب بن منبه (ت 110 هجري) و شرحبيل بن سعد (ت 123هجري) و ابن شهاب الزهري (ت 124هجري).و رغم أن كل ما كتبوه لم يصلنا إلا أن هناك من تلامذتهم من جمعه كله ووصل لنا عبر مصادر السنة المشهورة كالبخاي و مسلم و مالك في الموطأ و مسند أحمد و سائر كتب الحديث.
و كان أحد هؤلاء التلاميذ النابغين في العناية بجمع روايات السيرة و تدقيقها و تدريسها لتلاميذه هو محمد بن إسحاق (ت152هجري) أشهر و أوثق علماء السيرة منذئذ, وروايات ابن إسحاق مبثوثة في جميع مصادر الحديث خاصة مسند أحمد ولم يصلنا الكتاب الكامل الذي جمع فيه ابن إسحاق كل علمه و رواياته في السيرة و إن كان البعض يزعم أنه توجد نسخة خطية كاملة له في مكتبة استانبول, كما حصل بعض الباحثين على أجزاء كبيرة منه لكنها ناقصة من نسخة خطية أخرى و كملوها من مصادر حديثية أخرى ثم طبعوها.
و إن كان كتاب ابن إسحاق لم يصلنا مباشرة فقد و صلنا ما جمعه عالم بارز و اختصره من سيرة ابن اسحاق, هذا هو العلامة أبو محمد عبد الملك بن هشام (توفى في الفسطاط بمصر213هجري) والذي ألف كتاب "السيرة النبوية" المشهور الآن باسم "سيرة ابن هشام" و الذي لايزال التعويل الرئيس عليه في الرجوع لأصول روايات ابن إسحاق عن السيرة.
ثم جاء المؤرخون المسلمون الذين دونوا الموسوعات التاريخية الإسلامية المشهورة كتاريخ الطبري و ابن الأثير و الذهبي وغيرهم فاعتنوا بتسجيل السيرة مفصلة باعتبارها بداية التاريخ الإسلامي, و أول من وصلنا كتابه في هذا المجال الإمام محمد بن جرير الطبري المؤرخ و الفقيه العملاق و كتابه اسمه "تاريخ الرسل و الملوك" و أدق من كتب بهذه الطريقة الإمام الذهبي المؤرخ و عالم الحديث الكبير صاحب كتاب "تاريخ الإسلام" (52مجلدا), لكن العلامة ابن كثير المفسر و عالم الحديث وتلميذ ابن تيمية حقق نقلة نوعية في كتابة السيرة عندما كتب السيرة في موسوعته التاريخية "البداية و النهاية" حيث حرص على أن يكون كتابه موسوعة غير مسبوقة في السيرة ليس فقط من حيث التوسع في جمع معظم الروايات الواردة بشأن السيرة من شتى كتب الحديث و السيرة و لكن أيضا من حيث التوسع في تحقيق هذه الروايات و نقدها و تبيين صحتها من ضعفها و إن كان لم يفعل ذلك في كل الروايات لأسباب تتعلق بمنهج عصره ليس هنا مجال شرحها, كما علق ابن كثير على كثير من الأحداث برأيه شرحا و تعليقا.
و قبل ابن كثير و بعده تم تأليف آلاف الكتب عن السيرة بهذا المنهج و هو منهج جمع الروايات و ترتيبها ترتيبا زمنيا يبدأ من قبيل بعثة النبي و حتى وفاته صلى الله عليه و سلم.
وهناك نمط أخر من الكتابة في السيرة و هو الكتابة الموضوعية أي بتناول موضع واحد محدد وما يتصل به من أحداث السيرة بالدراسة في كتاب منفصل كما فعل القاضي عياض في كتابه "الشفا في التعريف بحقوق المصطفى" و البيهقي في "دلائل النبوة" و الترمذي في "الشمائل المحمدية" و غيرهم كثير مما يطول ذكره, إلا أن هناك طريقة متميزة في الكتابة الموضوعية للسيرة انفرد بها الإمام ابن قيم الجوزية ( وهو أبرز تلامذة ابن تيمية على الإطلاق) إذ تناول معظم سلوك النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) في معظم مجالات الحياة الشخصية و العامة سياسيا و عسكريا و اجتماعيا و اقتصاديا و ثقافيا و في كل شئ, و جاء تميز ابن القيم في كتابه هذا بكونه كسر التقليد السائد حينذاك بحصر كتابة السيرة في الجوانب السياسية و العسكرية والدعوية ونقل كتابتها إلى آفاق واسعة باتساع المجالات الاجتماعية و النفسية و الثقافية و الاقتصادية, و كتاب ابن القيم المسمى "زاد المعاد في هدي سيد العباد" لم يتميز بهذا فقط بل تميز أيضا بأنه جعل دراسته للسيرة بهدف العمل بمقتضى السلوك النبوي في شتى المجالات, فالسيرة في هذا الكتاب لم تعد مجرد صراع عقائدي و سياسي و معارك حربية فقط بل صارت أنساقا متكاملة من السلوك النبوي السامي في جميع المجالات, فعندما تقرأه فكأنك تقرأ عن كل شئ في الإسلام تقريبا, قد تختلف معه في قليل من الموضوعات بسبب اعتماده على قليل من الأحاديث الضعيفة لكن الكتاب جرى تحقيقه في السنوات الأخيرة و خرج في طبعة كبيرة مكونة من خمس مجلدات ضخمة, كما إنه متاح إلكترونيا مجانيا.
ثم جاء العصر الحديث لتتعمق و تتبلور مدارس كتابة السيرة بشكل أكثر تعددا و تخصصا.
و في البداية جاءت كتابات بعض المتأثرين بالمناهج الغربية ليشكلوا مدرسة جديدة في كتابة السيرة تتكامل مع المدرسة الأوروبية التي قادها المستشرقون, و أبرز أمثلة هذا الاتجاه محمد حسين هيكل في كتابه "حياة محمد" و محمد فريد وجدي في سلسلة مقالات بعنوان "السيرة المحمدية تحت ضوء العلم و الفلسفة".
و يتلخص منهج هذه المدرسة فيما قاله هيكل: "إنني لم آخذ بما سجلته كتب السيرة و الحديث, لأنني فضلت أن أجري في هذا البحث على الطريقة العلمية", و ما قاله محمد فريد وجدي: "و قد لاحظ قراؤنا أننا نحرص كل الحرص فيما نكتبه في هذه السيرة على ألا نسرف في كل ناحية إلى ناحية الإعجاز, ما دام يمكن تعليلها بالأسباب العادية حتى و لو بشئ من التكلف".
و انقسم علماء الحركة الإسلامية في تعليقهم على هذه المدرسة فهناك من هاجمها و اعتبرها هدما للدين و استمرارا لجهود الاستعمار الغربي إذ ماذا يبقى من الإيمان إذا ألغينا الغيبيات من الدين فالإيمان ما سمي إيمانا إلا لأنه إيمان بغيب غير مشاهد, إذ لو كان شيئا مدركا بالحس لسمي تصديقا و لكان أمرا عاديا غير محتاج لنبوة و لا وحي.
و في ناحية أخرى وقف فريق من علماء الحركة الإسلامية لا يؤيدون هذه المدرسة أيضا و يوجهون لها نفس النقد المنهجي لكنهم لا يتهمونهم بالعمالة للاستعمار بل بالعكس لقد اعتبروا هذه الكتابات نوعا من الانتصار للإسلام و للدعوة الإسلامية إذ إنها تعبر عن رجوع عدد من أبرز رموز الدعاية للفكر الغربي إلى التعاطف مع الإسلام و الدعوة إليه, و رأوا أن الأخطاء المنهجية في هذه المدرسة أمر طبيعي بسبب الخلفية العلمية لكتابها المتمثلة في الدراسات الغربية.
و هناك مدرسة أخرى لكتابة السيرة ارتبطت نشأتها بنشأة الجامعات الحديثة في العالم الإسلامي و أولها بالطبع الجامعة المصرية (جامعة القاهرة), و هذه المدرسة تبلورت في إطار أقسام دراسة التاريخ الإسلامي بهذه الجامعات و في مقدمة دراسات هذه المدرسة المحاضرات التي ألقاها الشيخ محمد الخضري بك بجامعة القاهرة و تم طبعها بعنوان "محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية" في أربعة أجزاء استغرقت السيرة أكثر من نصف الجزء الأول, وكان و مازال من أهم المراجع ضمن هذه المدرسة كتاب الدكتور حسن إبراهيم "تاريخ الإسلام" في جزءه الأول, و بالطبع تأثرت هذه المدرسة بمدرسة المستشرقين في كتابة السيرة لكن كثير منها أقل غلواء في تمسكه بمناهج المستشرقين من هيكل ووجدي, و قد نالت هذه المدرسة نقدا واسعا من علماء الحركة الإسلامية أيضا.
وظهر فريق من أساتذة التاريخ الإسلامي في الجامعات العربية قاموا باستخدام الجزء المحايد من مناهج البحث الغربية دون المساس بحجية السنة و مع الالتزام الكامل بمناهج البحث الإسلامية الرصينة في مزيج جدير بالتقدير ووضعوا كتبا هامة في السيرة, و من أبرز هؤلاء عماد الدين خليل.
كما نشأت مدرسة معاصرة تكاد تكون امتداد لمنهج ابن القيم و شراح السنة الذين درسوا الأحكام الشرعية المختلفة المتفرعة من أحداث السيرة في صورة موضوعات متكاملة, و أبرز رواد هذه المدرسة محمد الغزالي في كتابه "فقه السيرة" و البوطي في كتابه "فقه السيرة" أيضا و قد حاول كل منهما استخلاص الأحكام الشرعية التي نحتاجها في حياتنا المعاصرة من السيرة مع ميول قليلة لمنهج المعتزلة عند الغزالي و منهج الصوفية عند البوطي.
ومع ذلك ظلت مدرسة التحري و التدقيق في صحة روايات السيرة وفق مناهج البحث في علوم الحديث نشطة جدا فانتشرت عناوين مثل "صحيح السيرة النبوية" و سيجد القارئ العديد من كتب السيرة التي تحمل هذا الاسم الآن, منها على سبيل المثال لا الحصر كتاب تأليف إبراهيم العلي و قدم له الدكتورعمر سليمان الأشقر, و تسير هذه الكتب على نفس تبويب كتب السيرة التقليدية مثل سيرة ابن هشام و غيره لكنها تتحرى الروايات التي ثبتت صحتها و فق علوم الحديث, و ليس أدل على قوة هذه المدرسة حتى الآن من أن أحد أكبر علماء الحديث المعاصرين و هو ناصر الدين الألباني أقنع الشيخ الغزالي بأن يقوم الألباني نفسه بتدقيق روايات كتابه "فقه السيرة" و يعلق عليها و تمت العملية رغم عدم اقتناع الغزالي بمنهج علوم الحديث بسبب تأثره بمنهج المعتزلة, و من يطالع الكتاب سيجد أن الغزالي حرص على أن يرد على تعليقات الألباني في مقدمة الكتاب الذي لا تخلو أي من طبعاته من تعليقات الألباني.
و الألباني نفسه شرع في تحقيق و التعليق على "السيرة النبوية" لابن كثير باعتباره أوسع كتب السيرة في الروايات لكن الموت داهم الألباني قبل أن يتمه لكن ما أنجزه تم طبعه تحت عنوان "صحيح السيرة" لكنه متوقف عند حادثة الإسراء و المعراج.
و استمر التأليف التقليدي في السيرة الذي يماثل سيرة ابن هشام في التبويب و لا يدقق الروايات بل يحشو الكتاب بالصحيح و الضعيف معا, و من أشهر هذا اللون من التأليف كتاب "الرحيق المختوم" لصفي الدين المباركفوري و هو منتشر جدا بين التيار السلفي و حاز جائزة الملك فيصل العالمية و طبعت منه عشرات الطبعات حتى الآن.
و لكن أروع مدارس كتابة السيرة المعاصرة هي مدرسة الكتابات المتخصصة, تلك المدرسة التي تعتمد على تناول كاتب السيرة مجالا من مجالات العلم المعاصر و يتناول دراسة السيرة من خلاله بموضوعية و دون تكلف و بلا اعتماد على روايات ضعيفة قدر الإمكان, و لا يمكننا القول أن هذه المدرسة قد تكاملت بعد أو شملت جميع المجالات التي يحتاجها المسلم المعاصر لكننا يمكننا الإشارة إلى نماذج منها رائعة على سبيل المثال لا الحصر, فمنها الكتابات السياسية مثل كتاب محمد حميد الله "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي و الخلافة الراشدة" و أصل هذا الكتاب هو رسالة حصل بها المؤلف على الدكتوراه من جامعة باريس عام 1935م و جمع فيه كل ما استطاع من وثائق و مكاتبات النبي و خلفائه الراشدين من كتب الحديث و التاريخ و من الوثائق التي حصل عليها علماء الآثار, ومن الكتابات التي تناولت الجانب السياسي في السيرة من منطلق معاصر رسالة ماجستير بعنوان "دور المرأة السياسي في عهد النبي (ص) و الخلفاء الراشدين" للباحثة أسماء محمد زيادة .كما يأتي كتاب "الرسول القائد" للواء الركن محمود شيت خطاب كنموذج من نماذج هذه المدرسة حيث يحلل سيرة النبي (ص) تحليلا عسكريا يتسم بعمق التحليل و سهولة العرض.أما اللواء الركن جمال الدين محفوظ (قائد التوجيه المعنوي بالجيش المصري أثناء الإعداد لحرب أكتوبر 1973م) فقد كتب العديد من دراسات السيرة مركزا على الجوانب الإستراتيجية في حياة النبي و سلوكه و من الأمثلة الرصينة له في هذا المجال كتابه "المدخل إلى العقيدة و الإستراتيجية العسكرية الإسلامية" ففيه يدرس العقيدة و الإستراتيجية العسكرية من خلال أحداث السيرة. و ما زالت سيرة النبي الكريم ثرية بالدروس و العبر التي تجعلها دائما مجالا خصبا جاذبا للبحث و الدراسة رغم آلاف الدراسات التي تناولتها, و ما ذكرناه مجرد أمثلة من آلاف الدراسات.