مع أن تفجيرات بروكسل خطفت البريق من زيارة أوباما لكوبا، إلا أنها مع ذلك تبقى زيارة تاريخية ذات دلالات هامة وأبعاد عميقة.
فهي زيارة تأتي بعد ما ينوف على النصف قرن من عداء مُعلن وحرب باردة وحصار اقتصادي فرضته الولايات المتحدة على هذه الجزيرة الكاريبية ذات النظام السياسي اليساري الماركسي، وهو ما أدى على مرّ عقود من الزمن إلى مواجهات عديدة بين الطرفين، بصورة مباشرة وغير مباشرة، في مناطق مختلفة من أميركا الوسطى والجنوبية وأفريقيا.
السؤال الذي يتبادر للذهن بشأن هذه المسألة هو: ما الذي دفع أوباما، رغم وجود لوبي كوبي قوي متمركز في ولاية فلوريدا معارض لتطبيع العلاقات الأمريكية مع كوبا إلا بعد تغيير نظام الحكم فيها، إلى اتخاذ قرار التطبيع والقيام بالزيارة؟ أما السؤال الذي يليه فهو: ما الذي أدى إلى يُسر وسهولة وانسيابية خطوات التطبيع الأولى بين الجانبين.
قبل الخوض في محاولة تقديم الإجابة، يجدر التنويه إلى أن التغييرات الجذرية في السياسة الخارجية للدول بشكل عام، وللدول العظمى تحديداً، لا تأتي جُزافاً أو اعتباطاً، وإنما تُتخذ نتيجة تحليل عميق، وتُعبّر بالعادة ليس فقط عن رغبات القادة، وهي بلا شك عامل مهم، وإنما أيضاً عن رؤى عامة تخصّ مصلحة الدولة. وفي الحالة التي بين أيدينا، يمكن لتفاعل خمسة عوامل تقديم التفسير المنشود:
أولاً، إن العديد من دول أميركا الوسطى والجنوبية اتجه خلال فترة العقدين السابقين باتجاه اليسار، ومثلّت كوبا وفيديل كاسترو للقادة اليساريين الجدد، أمثال هوجو شافيز وخلفه نيكولاس مادورو في فنزويلا، وايفو موراليس في بوليفيا، ورفائيل كوريا في الإكوادور، مثلّت أيقونة إلهام ونموذجاً يُحتذي في الصمود ومواجهة الضغوط الأميركية. لقد بدأت أمريكا اللاتينية التي تعتبرها واشنطن «حديقتها الخلفية»، والتي أطلق الرئيس الأمريكي جيمس مونرو عام 1823 مبدأه القاضي باعتبارها منطقة نفوذ حيوي للولايات المتحدة في مواجهة التدخل الأوروبي حينها، بدأت التمرد على واشنطن والخروج عن طوعها، وقد أدى هذا التوجه إلى اليسار إلى إفقاد الولايات المتحدة الكثير من النفوذ، وأضرّ بالمصالح الأميركية، في نصف الكرة الغربي.
وثانياً، إن الولايات المتحدة وإن كانت استطاعت أن تحدّ من تمدد النفوذ السوفياتي خارج كوبا إلى غيرها من دول أمريكا اللاتينية منذ ستينيات القرن الماضي ولحين انهيار الكتلة الشرقية مطلع التسعينيات، إلا أنها تشهد الآن تمدداً صينياً في القارة يثير قلقها ويهدد مصالحها.
وقد جاء هذا التمدد للنجم الصيني الصاعد على الساحة الدولية، والمنافس الرئيس للولايات المتحدة، ليس في مواجهة عسكرية كتلك التي كانت بين واشنطن وموسكو إبان الأزمة الكوبية عام 1962، ولكن من خلال توظيف الصين الذكي لمبدأ «التجارة الحرة» التي تتبناها الولايات المتحدة وتروّج له عالمياً. لقد وصل حجم التجارة بين الصين وأميركا اللاتينية عام 2014 إلى نحو 263 مليار دولار أميركي. وقام الرئيس الصيني مؤخراً بزيارة أربع دول في القارة، وتم التوقيع بين الصين من جهة، ومجموعة دول أميركا اللاتينية والكاريبي التي تضم 33 دولة، من جهة ثانية، على خطة تعاون (2015-2019).
تشتمل هذه الخطة على مضاعفة حجم التجارة بين الطرفين لتصل حوالي 500 مليار دولار خلال فترة السنوات الخمس، وتعزيز حجم الاستثمارات ليصل إلى 250 مليار دولار خلال تلك الفترة.
كما وتتضمن الخطة تقديم الصين لستة آلاف منحة دراسية خلال الخمس سنوات لطلبة من القارة للدراسة في جامعاتها. هذا بالإضافة إلى أنها تضم بنداً حول تنسيق المواقف بين الطرفين: الصين والدول اللاتينية، بشأن القضايا الدولية.
لا تستطيع واشنطن، كما جرت عليه عاداتها في السابق، مواجهة هذا الاختراق الصيني لمنطقة كانت تعتبرها حصينة وآمنة للمصالح الأميركية بوسائل دفاع عسكرية أو أمنية تقليدية، لم تعد قادرة في هذا العصر على إعطاء المفعول المطلوب، بل أصبح عليها مواجهة تمدد النفوذ الصيني بوسائل أكثر نعومة وأفضل تأثيراً.
ويبدو أن تطبيع العلاقات مع كوبا، رمز المواجهة التقليدية مع الولايات المتحدة لعقود طويلة، اعتُبر من قبل واشنطن أحد أهم المداخل لرسم علاقة جديدة مع القارة اللاتينية.
ثالثاً، يمكن لواشنطن اعتبار مدخل تطبيع العلاقات الأميركية مع كوبا ملائماً لفتح صفحة تعاون جديدة مع الدول اللاتينية، لا سيّما وأن سياسة حصارها لكوبا لمدة تزيد عن النصف قرن لم تأت بالنتائج المتوخاة، وخصوصاً أنها لم تُسقط النظام الكوبي، بل على العكس، فإن هذه السياسة قد تكون أسهمت بشكل كبير في تأجيج مشاعر العداء للولايات المتحدة في القارة، وأوصلت اليسار إلى سدّة الحكم في العديد من دولها، وفتحت منفذاً لبكين لمنافسة واشنطن فيما تعتبره «عقر دارها».
ولذلك، فإن تغيير سياسة فاشلة من أجل تحقيق نتائج قد تكون واعدة لا يُعتبر مُكلفاً، سوى على صعيد معنوي، وهو لعق واشنطن لكرامتها المهدورة جرّاء الإقرار الفعلي بفشل سياستها تجاه كوبا. وفي خضّم كل هذا يجدر، رابعاً، عدم إغفال العامل الشخصي، أية رغبة أوباما، في تغيير معالم السياسة الأميركية تجاه كوبا تحديداً، والقارة اللاتينية بشكل عام. فأوباما الحاصل على جائزة نوبل للسلام قبل إحداثه أي اختراق يؤهله فعلياً لحمل تلك الجائزة، يريد أن يُخلّف إرثاً شخصياً إيجابياً لفترة رئاسته لأميركا.
ولكن في عالم مضطرب لم يمكنّه من تحقيق رغبته بيسر ووضوح، فإن الاتفاق مع إيران، وتطبيع العلاقات مع كوبا، قد يكونا الإشارتين الإيجابيتين المميزتين لفترة حكمه، فيدخل كتب التاريخ من خلالهما.
وأخيراً، يجب عدم التغاضي عن أن الرغبة القوية لكوبا لتطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة لعبت دوراً هاماً في تيسير الخطوات الأولى لعملية التطبيع، فكوبا تئن تحت وطأة حصار أميركي اقتصادي خانق لمدة طويلة، ما أثّر سلبياً على اقتصادها، وخصوصاً على مستوى معيشة مواطنيها الذين زادت وتيرة تململهم من الانغلاق المفروض عليهم من قبل نظام حكمهم من جهة، والحصار الأميركي، من جهة ثانية، لذلك كان النظام السياسي الكوبي مستعداً ومنتظراً انتهاز أية فرصة سانحة لإنهاء الحصار، ولكنه لم يكن يرغب في دفع ثمن باهظ مقابل ذلك.
يبدو أن الرغبتين، والمصلحتين، الأميركية والكوبية التقيتا في منتصف الطريق، فكل طرف يمكنه أدعاء أنه لا غالب ولا مغلوب في إنهاء سياسة عداء استمرت لمدة تنوف على النصف قرن، ولم تحقق لأي منهما شيئاً مفيداً.