الانسحاب العسكري الروسي المفاجئ من سورية، منذ يوم 15 آذار الجاري، ترك المعلقين السياسيين في حيرة شديدة، ولكن عددًا قليلًا من التحليلات المطروحة ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد. هناك القليل من المعلومات المؤكدة حول لماذا قرر الرئيس الروسي إنهاء حملته العسكرية في سورية. لقد كان التدخل الروسي، الذي بدأ في أيلول الماضي، كافيًا لتغيير اتجاه الحرب على عدة جبهات. ومع ذلك، هناك شيء واحد مؤكّد: الانسحاب الروسي متقلب، وقد تعود روسيا إلى سورية مرة أخرى، كما أشار فلاديمير بوتين نفسه. وقال في الكرملين يوم 17 آذار: “إذا لزم الأمر، في غضون بضع ساعات، يمكن لروسيا بناء قواتها في المنطقة بحجم يتناسب مع تطورات الوضع هناك واستخدام ترسانة كاملة من القدرات المتوفرة لدينا”. في الواقع، جميع الأطراف المعنية تأخذ مثل هذا التهديد على محمل الجد، لأنَّ الانسحاب المفاجئ لم يجدد الشهية للحرب، ولم يمنح فرصة لأي طرف رئيسي في الصراع بالانسحاب من محادثات السلام في جنيف. ولذا، فمن الأسلم أن نقول إنّه بعد خمس سنوات من الحرب في سورية، يدخل الصراع مرحلة جديدة. لا يوجد حل سياسي، ولكنَّ لعبة سياسية كبرى من شأنها تقسيم البلاد إلى عدة كيانات على أسس طائفية. وإذا حدث ذلك، سيكون نذير شؤم، ليس فقط في سورية ولكن في المنطقة بأسرها. لقد أصبح التقسيم الكلمة الطنانة التي تقضي بأن جميع الصراعات الراهنة يمكن تسويتها. في حين أن دوافع روسيا وراء الانسحاب لم تتضح حتى الآن، إلّا أنَّ الصلة الجوهرية بين هذه الخطوة والمباحثات الجارية، والتي وُضع فيها تقسيم سورية إلى فيدرالية على جدول الأعمال، واضحة تمامًا. كتب مايكل جنسن في صحيفة «جوردان تايمز»: “مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا، يجب أن يخجل من نفسه على وضع” الفيدرالية “على جدول أعمال محادثات هذا الأسبوع لإنهاء الحرب السورية وتشكيل “سورية” جديدة. وينبغي انتقاد موسكو، بالإضافة إلى بعض القوى الغربية، للتفكير بهذا الاحتمال”. في الواقع، هذا النموذج ليس نموذجًا روسيًا خالصًا. لقد استطاعت روسيا إعادة التوازن إلى الصراع لصالح حكومة بشار الأسد، ولكن الأطراف الأخرى المختلفة، الغربية والعربية، بالإضافة إلى تركيا وإيران، قد نجحت في توجيه الصراع إلى طريق مسدود. ومع عدم توافر حسن النية، وقلة الثقة بين الأطراف المتنازعة، تحوّل تقسيم البلاد من احتمال بعيد المنال إلى احتمال حقيقي. وعلى هذا النحو، لم يكن مفاجئًا أنّه وسط الانسحاب الروسي وبعد وقت قصير من استئناف المحادثات في جنيف، أعلنت المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد في سورية بأنها منطقة فيدرالية مستلقة في الشمال. بالطبع، هذه الخطوة غير دستورية، لكن العنف الدموي في سورية أصبح فرصة مثالية لمجموعات مختلفة لتأخذ زمام الأمور بأيديهم. ورُغم كل شيء، أقام تنظيم داعش دولة لنفسه وصنع اقتصادًا جديدًا، وأنشأ وزارات عديدة بل وألّف مجموعة من الكتب المدرسية الجديدة. ومع ذلك، فإنَّ الخطوة التي قام بها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، هي في الواقع أكثر جوهرية ولها تبعات مؤثرة في المنطقة. تنظيم داعش هو مجموعة منبوذة غير معترف بها من قِبل أي طرف آخر في النزاع، في حين أنَّ حزب الاتحاد الديمقراطي هو فرع من حزب العمّال الكردستاني ولديه الكثير من التعاطف والدعم من كل من الولايات المتحدة وروسيا. وحظيت المجموعة بالثير من الثناء لمكافحة داعش بشجاعة، وتتوقع مكاسب سياسية لقيامها بهذا الدور. وبالرغم من ذلك لم يتم دعوتها لحضور المحادثات في جنيف. وبالرغم من أن الإعلان الفيدرالي كان يُنظر له كنوع من الثأر لاستبعادهم من المحادثات، لكن من غير المحتمل أن حزب الاتحاد الديمقراطي اتخذ هذا القرار دون دعم سري من الفاعلين الرئيسيين، الذي كانوا يروّجون لفكرة الفيدرالية منذ عدة أشهر. على سبيل المثال، تحدث مايكل أوهانلون من معهد بروكينغز عن تلك الفكرة في افتتاحية وكالة رويترز في أكتوبر الماضي. ودعا الولايات المتحدة لإيجاد “هدف مشترك مع روسيا”، مع التفكير في “نموذج البوسنة”. وفي الآونة الأخيرة، خلال شهادته أمام لجنة مجلس الشيوخ الأميركي لمناقشة وقف إطلاق النار السوري، كشف وزير الخارجية جون كيري أنَّ بلاده تجهز “الخطة ب” في حال فشل وقف إطلاق النار. وقال كيري إنّه قد يكون فات الأوان “للحفاظ على سورية كدولة موحدة، إذا انتظرنا وقتًا أطول”. ربما كان من الممكن أن يؤدي اشتراك روسيا في الحرب إلى تغيير مشهد الصراع على الأرض، ولكنه عزز نموذج التقسيم. التصريحات الأخيرة التي أدلى بها نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، بأن النموذج الفيدرالي لسورية “سيعمل على خدمة مهمة الحفاظ على سورية كأمة موحدة وعلمانية ومستقلة وذات سيادة”، كانت نسجًا روسيًا استنادًا إلى تصريحات كيري. وبالنظر إلى موازين القوى الحالية في سورية نفسها والمنطقة ككل، قد يصبح هذا هو الحل العملي الوحيد الممكن لبلد تمزقه الحرب واستنزفه العدد اللانهائي للضحايا. ومع ذلك، رفضت قطر ودول الخليج الأخرى فكرة الفيدرالية، وعلى الرغم من المكاسب الإقليمية الأخيرة للحكومة السورية، قد يكون رفضهم عاملًا محوريًا في هذا الصراع. كما تجد تركيا الفيدرالية كإشكالية كبرى لأنها ستمكّن عدوها اللدود، الأكراد، الذين، وفقًا لهذا النموذج، سيتم منحهم منطقة حكم ذاتي خاصة بهم. وقد كان إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي مجرد بالون اختبار في أحسن الأحوال، أو خطوة أوليّة نحو تقسيم سورية. بالنظر في مدى وحشية الحرب السورية في هذه السنوات القليلة الماضية، قد لا تكون الفيدرالية احتمالًا مروّعًا بالنسبة للكثيرين، ولكنها أسوأ من ذلك. من الناحية التاريخية، كانت الدول العربية نتاج تدخل الغرب والأجانب الذين قسّموا المنطقة وفقًا للمصالح الاستراتيجية الخاصة بهم. عقلية “فرق تسد” لم تُهزم حتى الآن، بل إنها في الواقع، أصبحت أكثر قوة في ظل الاحتلال الأميركي للعراق. وأوضح جنسن: “إنَّ الفيدرالية في سياق هذه المنطقة هي كلمة أخرى للتقسيم. إنّها كلمة سيئة ومفهوم بغيض بالنسبة للبلدان في منطقة حيث ترسّخت الجماعات الطائفية والعرقية لعدة قرون في أجساد الدول، مثل الزبيب في كعك عيد الميلاد”. تمّ تقسيم المنطقة العربية في العام 1916 لحلّ النزاعات العالقة بين بريطانيا وفرنسا، وإلى حد أقل، روسيا. “الفيدرالية” المقترحة في سورية تتبع المنطق نفسه. ولذلك، فإذا تمّ فتح صندوق باندورا، فمن المرجح أن يجد نفسه على جدول أعمال محادثات سلام في المستقبل في أماكن أخرى، حيث قد يجد الليبيون واليمنيون أنفسهم يتجادلون حول الاحتمال ذاته. كل هذه الدول كانت، عند مرحلة ما في الماضي، منقسمة أيضًا، لذلك فإنها ليست فكرة غير مقنعة تمامًا. من المهم ألّا يصبح تقسيم العرب طريقة العمل في إدارة الصراع والمنطقة ومواردها. إنَّ الفيدرالية تقوّض ليس فقط هوية الأمة السورية، ولكنها أيضًا تزرع البذور للمزيد من النزاعات بين الطوائف المتحاربة في سورية ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام. إنَّ وجود سورية موحّدة هو الشيء الوحيد الذي يقدّم الأمل في المستقبل، لا شيء غير ذلك.
عن «ميدل إيست مونيتور»