في 20 آذار الحالي من سنة 2003 غزت الولايات المتحدة وحلفاؤها العراق. في زحمة الأحداث وتعقدها تضيع هذه الذكرى، مع أنها بوابة هامة لكل الشرور والمصائب التي تسود المنطقة الآن. لم يكن للغزو، كما تأكد بما لا يدع مجالا للشك، اي سبب او مبرر قانوني ولا سند من الشرعية الدولية، ولا قام للرد على عدوان قام به العراق او استباقا لاعتداءات يحضر لها. ليس المقصود هنا تناول تجربة العراق وأوضاعه وسياساته ودوره قبل الغزو، ولا المقصود الترحم على النظام الذي كان قائما فقد ذهب الى ذمة التاريخ بما له وما عليه. في ذلك الغزو وبنتيجته قتل حوالي مليون إنسان. وما زالت المقتلة قائمة حتى لحظتنا الحاضرة تحصد أرواحاً جديدة في كل يوم. لم يكن سقوط مليون من الأرواح البشرية هو المصيبة الوحيدة للغزو، بل نتج عنه مصائب أُخرى لا تقل فداحة. واذا كانت مصيبة المقتلة ما زالت مستمرة، فان المصائب الاخرى ما تزال مستمرة أيضاً ولكنها تزداد تعمقا وانتشارا وأضراراً. فيما يخص العراق بذاته وداخل حدوده، فقد تكون المصيبة الأكبر من تلك المصائب الأُخرى، هي انقسام المجتمع العراقي الى مكونات مجتمعية متنافسة تقوم على أُسس الطائفية والمناطقية والمصلحة. وتحول العراق من بلد موحد متماسك قوي الى بلد ممزق وضعيف يديره ما يشبه ائتلاف بين مناطق وطوائف تتنازع الصلاحيات والثروات. وهذا ما ادى الى تراجع هائل في كل أوضاع العراق كدولة ومجتمع وفي حياة المواطن العادي ودرجة رفاهه ومستوى الخدمات الحيوية التي تقدمها الدولة له، واهمها الأمن المجتمعي والشخصي. وغني عن القول، ان التراجع الهائل قد طال الاقتصاد بما اخرج العراق من دائرة الدول الغنية. صحيح أن نتائج الغزو كانت السبب الرئيسي وراء التراجع الافتصادي، لكن لا يمكن تجاهل دور عمليات النهب والفساد الذي استشرى بالاستفادة من حالة الانقسام المجتمعي المشار اليها، والتي وصلت الى معدلات غير مسبوقة ودخلت في خانة المليارات. ويمكن إيراد مجالات وعناوين أُخرى طالها التراجع الهائل المذكور: منها التراجع العلمي وتشتت او تصفية علماء العراق، ومنها التراجع العسكري الكبير بعد ان تم حل الجيش العراقي والتراجع الأمني بعد ان تم حل المؤسسة الأمنية، ومنها التراجع في مجالات التعليم والصحة، ومنها.....ومنها... واقع الاحتلال والانقسام المجتمعي والتراجع الهائل المشار اليه جعل من العراق تربة خصبة توفر حاضنة لوجود وتنامي قوى الإرهاب الطائفية. من هنا جاءت تجربة " ابو مصعب الزرقاوي" داخل العراق، ثم امتداداتها خارجه. اما في ما يخص خارج حدود العراق، فان الكثير من المصائب التي تعيشها المنطقة الآن هي اما نتيجة مباشرة لحال العراق بعد غزوه، وأما متأثرة بنتائجها ومفاعيلها وتداعياتها. فقد لعب حال العراق الموصوف في تمدد وانتشار الإرهاب الى خارج حدوده، سواء كان ذلك الخارج هو دول عربية مجاورة، وذات حدود مشتركة بشكل خاص مثل سورية، او كان دولا ومناطق أُخرى. وقد لعب هذا التواجد ثم الانتشار والامتداد دوراً أساسياً في خلق الحال التي يعيشها النظام العربي بشكل عام بكل ما فيه من ضعف وانقسام وصراعات في العديد من دوله تهدد بإعادة تقسيمه ورسم خرائطه. لا يقتصر الأمر على استفادة الإرهاب في المنطقة من حال العراق بعد غزوه وانقسامه المجتمعي وضعف وتشتت قدراته الأمنية والعسكرية. ربما الأهم ان ذلك الحال تسبب في ضعف شديد يقترب من الغياب أصاب الموقع الذي كانت تحتله والدور الذي كانت تلعبه دولة العراق كدولة مركزية قوية ومؤثرة في النظام العربي وفي الاقليم، خصوصاً وان هذا الموقع وذلك الدور لم يكونا في حالة توافق او انسجام مع الدول الغربية النافذة وسياساتها في المنطقة. وقد يكون هذا هو التأثير الأهم لعراق ما بعد الغزو في الحال الموصوف الذي تعيشه المنطقة العربية بشكل عام. واقع الحال في العراق ووجود الإرهاب فيه من جهة، وتأثير هذا الحال على الأوضاع في المنطقة من جهة أُخرى يؤكدان ان غزو العراق لم يكن مغامرة انفعالية حمقاء غير مدروسة قادها الرئيس الأميركي بوش الابن وشجعه عليها بعض أركان حكمه. بل يؤكدان ان الغزو كان عملاً مدروساً ومخططاً دفعت اليه بوعي وتدبير الإدارة الأميركية والمحافظين الجدد في أميركا وأيدتها فيه بعض الدول الغربية، بالذات بريطانيا. ويؤكد ان ان الغزو جاء في سياق مخطط عام لكل المنطقة العربية هدفه الأساس تحقيق "رؤية الشرق الأوسط الجديد" كما طرحتها كوندا ليزا رايس في ذلك الوقت، وذلك خدمة لمصالح أميركا وحلفائها في المنطقة وتثبيتا لوجودها فيها، وخدمة أيضاً، لضمان أمن واستقرار دولة الاحتلال الصهيوني. لا يغير من هذه الحقيقة ان الغزو واجه عقبات وصعوبات لم يأخذها المخططون له بالحسبان الكافي، أساسها رفض أهل المنطقة وقواها لمخطط ومقاومتها له، ثم متغيرات لحقت بالأوضاع العالمية وتوازناتها وحساباتها، وهو ما أعاق تواصل المخطط واستمراره حتى التحقق الكامل في حينه، وان بقي المخطط ورؤيته قائما بذاته والعمل على تنفيذه متواصلا. في هذا الزمن فإن المعطيات التي زرع غزو العراق أشتالها ومعها معطيات أُخرى مستجدة في دول ومناطق أُخرى تدفع بالمخطط ( رؤية الشرق الأوسط الجديد) واستكمال تحقيقه الى صدارة الجدل السياسي في الدوائر النافذة وتعطيه زخما ودفعاً كبيرين، حتى وان اقترن ذلك بمساومات تفرضها متغيرات استجدت على التوازنات بخصوص المنطقة والإقليم.