يصادف الثاني والعشرون من آذار من كل عام ما بات يعرف بـ "اليوم العالمي للمياه"، حيث يتم الاحتفال به بناء على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في نفس اليوم من عام 1993، والهدف منه هو التوعية للحفاظ على مياه صالحة للاستهلاك البشري وللإنتاج، وكذلك لترشيد استخدام مصادر المياه المتوفرة، وشعار الاحتفال في عام 2016 هو "أهمية المياه لتوفير فرص العمل"، وهذا الشعار هو الأقرب للوضع المائي في بلادنا، حيث نحتاج المياه لتوفير فرص العمل في الزراعة وفي الصناعة وفي السياحة وفي البناء والإنشاءات وفي مشاريع البيئة والطاقة وغيرهما، وفي كل مناحي الحياة الأخرى. وفي بلادنا، نعرف أن غالبية مصادر المياه هي مصادر جوفية، ويحتل موضوع المياه أهمية خاصة، لأن عملية البناء والتنمية الاقتصادية المستدامة، وبالتالي خلق فرص عمل للآلاف من العاطلين، تحتاج الى مياه بالكمية وبالجودة المطلوبتين، وتزداد هذه الأهمية بسبب شح مصادر المياه، وتلوثها او تدهور جودتها خاصة في قطاع غزة، وكذلك ما زالت قضية المياه تعتبر إحدى مواضيع مفاوضات المرحلة النهائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومعروف حسب المعايير الدولية أن الحد الادنى لاستهلاك المياه للفرد في اليوم الواحد هو 100 لتر من المياه الصالحة او ذات الجودة المقبولة، اما معدل الاستهلاك اليومي الحقيقي للمواطن الفلسطيني فهو تقريبا 70 لتراً، اما معدل استهلاك المواطن الإسرائيلي فهو حوالي 300 لتر يومياً، وبعيدا عن الكمية، وبالنظر الى نوعية وجودة المياه، فيكفى أن نشير إلى أن جزأ كبيراً من مياه قطاع غزه، وهي بمعظمها جوفية، هي وحسب المعايير الدولية سواء من المنظمات الصحية او البيئية مياه ملوثة، وان تلوث المياه في قطاع غزة ينتج عن عدم التخلص السليم من المياه العادمة، حيث تجد طريقها الى المياه الجوفية، وكذلك نتيجة الاستخدام المكثف للمبيدات الكيميائية والأسمدة، حيث انه وبفعل مياه الأمطار او الري تتسرب المواد الكيميائية ومن خلال التربة الرملية لتصل في المحصلة إلى المياه الجوفية. والحفاظ على نوعية المياه يتطلب إجراء مراقبة دورية وتحليل روتيني لجودة المياه من الناحية الميكروبية والكيميائية وهو أمر ضروري لتحديد مدى ودرجة تلوثها، ويعني وجود مختبر مع طاقم متخصص في هذا المجال، حيث إن التلوث الكيميائي، مصادره متعددة ومتنوعة، وتتراوح من تلك الناتجة عن فضلات المصانع، او المواد الكيميائية الناتجة عن الاستخدام الزراعي للمبيدات والأسمدة، واستخدام الكيميائيات في مجال الثروة الحيوانية، والنقطة المهمة هنا هي تراكم هذه المخلفات بالبيئة المحيطة بتلك النشاطات ومن ثم نزولها إلى طبقات التربة الدنيا وبالتالي المياه الجوفية، واحتمالات انتقالها إلى مواد أكثر سمية وخطورة على صحة الإنسان حين تستخدم المياه للشرب، وكذلك تأثيرها السلبي على المزروعات حين تستخدم في الري، ومن ضمن هذه المواد المسببة للتلوث المركبات العضوية مثل مواد الـ "ديوكسين"، والمركبات العضوية الحلقية وهي مواد سامة، وكذلك مبيدات الحشرات، ومبيدات الأعشاب وخاصة حين تُستخدم كخليط مع التربة فإن احتمالات نزولها إلى المياه الجوفية هو كبير، وكذلك المركبات غير العضوية والمعادن مثل الزئبق، الكادميوم، والكروم وهي عناصر خطيرة ولها مضاعفات على صحة الإنسان والأجنة. ومن واجب السلطة في كل دول العالم ومنها فلسطين توفير المياه الصالحة لمواطنيها وإيجاد مصادر مياه بأقل التكاليف والعبْء الاقتصادي، وبالتالي فإن توفير وسائل الوقاية والمراقبة الدورية لجودة المياه الموجودة يعتبر أفضل الأساليب والطرق لتوفير النوعية الجيدة للمياه، وهذا يتطلب العمل لإصدار ومن ثم تطبيق قوانين وتشريعات بيئية تلائم واقع المياه والبيئة الفلسطينية وطبيعتها، وبان يتم التركيز على التوعية البيئية وخاصة استخدام الإعلام البيئي، وذلك من اجل إيصال الرسالة وبأسلوب واضح وبسيط لغالبية الناس من اجل الاهتمام وحماية البيئة الفلسطينية. والى انه يجب القيام بدراسات تقييم الأثر البيئي وخاصة الآثار على مصادر المياه الجوفية قبل البدء في اي مشروع، سواء أكان ذلك مشروعاً صناعياً او زراعياً او مشروعاً عمرانياً، وبأن تكون هذه الدراسات علمية وموضوعية وتتم عن طريق خبراء، وتبرز أهمية هذه الدراسات حين يكون المشروع ذا بعد وطني واستراتيجي مثل بناء مدينة روابي، او إنشاء محطات الكهرباء او المدن الصناعية. ونحن نعرف ان الوضع المائي في القطاع هو وضع كارثي في الوقت الحاضر، حيث تتدفق المياه العادمة غير المعالجة والنفايات المنزلية والصناعية وبقايا المواد الكيميائية التي نتجت عن مئات الآلاف من أطنان المواد المتفجرة التي تم إلقاؤها على قطاع غزة خلال الحروب الأخيرة، تتدفق لكي تصل في المحصلة الى المياه الجوفية، التي هي المصدر الاساسي للمياه في القطاع، وما لذلك من تداعيات قصيرة المدى على الصحة العامة عن طريق انتشار الأمراض، وآثار بعيدة المدى تتمثل في تلوث مصادر المياه الجوفية والتربة الزراعية وكذلك تلوث الطعام والمنتجات الغذائية ومن ضمنها الأسماك نتيجة تراكم المواد الكيميائية في أنسجتها. وحسب تقارير محلية ودولية، فإن حوالي 96% من مياه الخزان الجوفي في قطاع غزة، غير صالحة للاستخدام، وان الوضع المائي في القطاع في تدهور مستمر نتيجة الاستهلاك المتزايد للمياه الجوفية، وبالتالي تسرب مياه البحر وكذلك مياه الصرف الصحي الى خزانات المياه الجوفية، ما أدى الى ارتفاع نسبة الملوحة وازدياد التلوث، وبالأخص زيادة تراكيز الكلوريد والنترات وغيرهما، حيث حسب التقارير تصل تراكيز الكلوريد في بعض المناطق، الى حوالي 5 آلاف ملغرام لكل لتر من المياه. وفي خضم ما وصل اليه الوضع الحالي للمياه في قطاع غزة، فإننا بحاجة وبسرعة للبحث عن حلول جذرية ومستدامة، اي حلول طويلة المدى لمعضلة جودة المياه، ومن ضمنها ربما يكون محطات تحلية المياه، وذلك من خلال سحب المياه من البحر، اي من البحر الأبيض المتوسط، وتحويلها او تهيئتها للشرب، ومن ثم إعادة ما يتم فرزة أو إنتاجه من أملاح الى البحر الواسع، وبسبب التطور التكنولوجي لمحطات تحلية مياه البحر، فإن فعاليتها قد ازدادت، وبالتالي قلت تكاليف المياه الناتجة منها التي من المفترض ان تستخدم للاستهلاك البشري. ومحطات تحلية مياه البحر هي فقط إحدى المسارات الهامة لحل معضلة المياه، لأن هناك مسارات أُخرى تم ويتم اتباعها للحصول على المياه، ومنها التطور التكنولوجي والإداري الكبير في عملية استغلال المياه العادمة، أي إعادة تدويرها لكي يتم الاستفادة منها، حيث إننا ننتج سنوياً أو شهريا أو يوميا الآلاف من الأمتار المكعبة من المياه العادمة، والتي تذهب سدى او تلوث البيئة والصحة، ولا نستغل ولو الجزء البسيط منها، فلماذا لا نقوم كذلك بوضع خطة عمل لتكريرها وبالشكل العلمي الصحيح، وليس بشكل عشوائي كما يتم الآن، ومن ثم الاستفادة التدريجية منها، في الزراعة ولزراعة أنواع معينة من المحاصيل، كما يتم في العالم. ومع الاحتفال بـ " اليوم العالمي للمياه" هذا العام تحت شعار "أهمية المياه لإيجاد فرص العمل"، فإننا نتذكر كم من مزارع الموز والحمضيات والخضروات اندثرت في منطقة الاغوار او في قطاع غزة مثلا، وبالتالي عشرات وبل مئات وربما الآلاف من فرص العمل ضاعت بسبب عدم توفر المياه، سواء بالكمية اللازمة او من ناحية النوعية ومستوى الملوحة، وكذلك نتذكر أن العديد من المشاريع الصناعية والإنشائية لم تجد طريقها إلى التنفيذ، وبالتالي لم يتم تشغيل المئات من العاطلين والباحثين عن عمل، وذلك بسبب المياه، وهذه الأمثلة تدعونا إلى اعتبار أن المياه ليست فقط سلعة ضرورية للاستهلاك البشري، ولكن للإنتاج وللتنمية ولتشغيل البشر.