الحديث المطول الذى أدلى به أوباما مؤخرا لجيفرى جولدبيرج ونُشر بمجلة «ذى أتلانتك» بتاريخ 10 مارس تحت عنوان «مذهب أوباما» The Obama Doctrine هو الأجرأ منذ وصوله إلى رئاسة البيت الأبيض, وربما الفريد فى نوعه أيضا. نص المقابلة يقع فى 36 صفحة بينما اتخذ هذه المساحة الواسعة فى التغطية (83 صفحة) بعد إضافة أغلب لقاءاته ومقابلاته وحواراته فى الداخل الأمريكى وخارجة, ليخرج بصورة تعبر عن رؤية متكاملة لسياسته الخارجيه وخبرته التى اكتسبها خلال سنوات حكمه, أسوة برؤساء أمريكا السابقين من الجمهوريين والديمقراطيين على السواء, الذين إرتبطت سياستهم الخارجية بأسمائهم, بدءاً من «مبدأ» مونرو, وويلسون وأيزنهاورإلى نيكسون وكارتر وريجان وصولا إلى جورج بوش الأب والإبن, حتى صار تقليدا متبعا, بحيث يكون كل مبدأ أو مذهب بمثابة مرجعية فكرية وسياسية يُسترشد بها ويُؤخذ منها أو يضاف إليها أو يتغير منها أجزاء وفقا للظروف والتحديات وطبيعة الدور الذى تريد الولايات المتحدة أن تلعبه على مستوى العالم وهو بحكم التعريف متغير أيضاً. وجميع هذه المذاهب بإختصار تحمل ملامح من النزعتين الرئيسيتين المحددتين للسياسة الأمريكية, أى المثالية والواقعية.
إذن لم يتخط أوباما القاعدة الثابته, ولكن اللغة التى تحدث بها وأسلوب تقييمه لحلفائه وأصدقائه- وليس أعدائه وخصومه- هوالأمر اللافت هذه المرة بل والجديد تماماً. فماذا قال؟ فى البداية وجه اللوم لأقرب حلفائه, الدول الأوروبية وخص منها بريطانيا وفرنسا , اللتين أحبطاه فى أزمة ليبيا, وهما الأقرب إليها جغرافيا, حتى أصبحت ساحة للفوضى. وكيف ضغط على رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون لزيادة نسبه إنفاقه العسكرى كى يوفى بالتزاماته فى العمليات الخارجية.
ولأول مرة ينتقد صراحة رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو على «عجرفته» السياسية واعتقاده بأنه الأجدر على فهم المنطقة من أعلى مسئول أمريكى, فضلا عن تعطيله حل الدولتين (فلسطينية وإسرائيلية) وفقا لمبادرة سلفه بوش الإبن.
قال أيضا عن أردوغان رئيس تركيا وزعيم حزب العدالة والتنمية الاسلامى الحاكم و شريكه فى حلف الناتو, بأنه «مستبد وفاشل», كان يتوقع منه أن يكون جسرا بين الشرق والغرب وأن يقدم نموذجاً يُحتذى ولكنه خيب توقعاته مثلما أخلفها فى تحركاته الاقليمية خاصة ما يتعلق بالملف السورى.
وبنفس المنطق, انتقد بشدة تيارات الاسلام السياسى (ربما قصد جماعة الاخوان تحديدا) على إخفاقها فى قيادة حركة إصلاح شاملة فى أفكارها وأيديولوجياتها لتتواءم مع قيم الديمقراطية والحداثة مثلما حدث تاريخيا فى المسيحية وغيّرها عن صورتها الأولى للعصور الوسطى, وأنه لا حل جذرى للإرهاب ما لم تكن هناك فى الأساس معركة فكرية ضد التطرف فى العالم الاسلامى. كذلك صرح بفشله هو شخصياً فى نشر الحرية والديقراطية فى الشرق الأوسط بعد خطابة الشهير فى جامعة القاهرة (2009) لأن أغلب دوله لا تعرف سوى القليل من الحياة المدنية الحديثة بحيث لم تُخلف ثورات الربيع العربى إلا الصراعات الدينية والطائفية والاقتتال الأهلى والإنحياز لكل ما هو تقليدى, أى لما قبل الدولة القومية, دون أن تحل مشكلات الحكم أو تمتلك خطة لتحقيق الرخاء لشعوبها.
لم تسلم السعودية بدورها, أهم حليف اقليمى مستقر لواشنطن, من انتقاداته اللاذعة, وضرب مثلا بأندونسيا التى عاش وتعلم فيها لفترة من الزمن وكيف تحولت من الاعتدال الى التشدد بفعل هذه المستجدات, وأن مسئولى البيت الأبيض دائما ما يرددون أن من قاموا بتفجيرات 11 سبتمبر(أكبر عمل إرهابى فى أمريكا) كانوا من السعوديين.
من ناحيتها, لم تلجأ الرياض إلى التعتيم أوتجاهل ما قيل بحقها وبادلته صراحته المطلقة بصراحة أكثر قسوة مثلما ظهر فى وسائل اعلامها وكان أبرز ما جاء فيها مقال للأمير تركى الفيصل, سليل العائلة المالكة ورئيس المخابرات السابق, تحت عنوان «لا يا سيد أوباما» بجريدة الشرق الأوسط (14 مارس), مُذكرا له بالتعاون الوثيق بين بلديهما سياسيا واقتصاديا وأمنيا, والذى استمر لما يقرب من ثمانين عاما, وبدور السعودية القيادى فى الاقليم وفى الحرب على الارهاب والتى كانت آخر مظاهرها تشكيل تحالف يضم ثلاثين دولة للتصدى له, ناهيك عن مساهمتها الكبيرة فى دعم اقتصاد بلاده (أى أمريكا) من خلال شرائها السندات الحكومية منخفضة الفائدة واستضافتها لما يزيد عن 30 ألف خبير أمريكى يعملون فى مجالات الصناعة والشركات الكبرى بأعلى الرواتب.
وبعيداً عن التفاصيل, فإن هذا التراشق الحاد يُعتبر سابقة فى العلاقات الأمريكية السعودية, وربما ما زاد من تعقيد الموقف هو مطالبة أوباما للمملكة باقتسام النفوذ مع ايران وقبول دورها كأمر واقع لإنهاء الصراعات الطائفية الدائرة بينهما والحروب بالوكالة, وبالتالى ساوى بين الطرفين رغم التباين الشديد فى علاقة كل طرف منهما ببلاده.
فى النهاية, أعرب عن غضبه من سعى جميع حلفائه «للركوب المجانى» فى القطار الأمريكى, وأن النظرة الى المستقبل يجب أن تعتمد على جعل تدخل أمريكا فى المنطقة أقل «كلفة» وهو ما يسميه بالانسحاب التدريجى من الشرق الأوسط, الذى بات لا يُصدر فقط النفط وإنما الارهاب أيضا كما أشار, خاصة بعد الاكتشافات البترولية فى أمريكا ذاتها وانخفاض أسعار البترول عموماً، ومن ثم تراجع الأهمية الاسترتيجية للمنطقة من وجهة نظره.
بالقطع ما لم يقله أوباما هو مسئولية السياسة الأمريكية عما آلت اليه الأوضاع , وعن نمط اختياراتها وتحالفاتها فى الماضى والتى أسهمت بقوة فى تشكيل الحاضر الذى يتذمر منه. ولكن بغض النظر عن هذه الحقيقة, تبقى ملاحظة أساسية على الحديث نفسه, وهى أنه أعلن عن «مذهبة» فى نهاية ولايته وليس بدايتها كما هو معتاد, وهو ما يعنى أن هذه التصورات هى ما يريد أن يتركها لمن سيأتى بعده لكى تشكل الخطوط العريضة للاستراتيجية الأمريكية مستقبلا, ومن هنا فليس من المتوقع أن تحدث الآن- أى فى الفترة المتبقية من رئاسته- انقلابات جذرية فى توجهات سياسته العامة.
إن ما فعله لم يكن أكثر من اخراج ما يقال فى الغرف المغلقة إلى العلن, ليس كنوع من الرفاهية الفكرية, وإنما لتوجيه رسائل محددة لأطراف بعينها تكشف لها كيف ينظر إليها الجالس فى البيت الأبيض بعيدا عن الدبلوماسية, وبالتالى سيكون على تلك الأطراف بدورها إعادة رسم سياساتها تحسبا لما قد يتغير.
عن الاهرام