في تزامن مقصود أو غير مقصود، شهدت العاصمتان القطرية والمصرية في الأيام الأخيرة الجولة الثانية من المباحثات بين وفدين من "فتح" و"حماس"، استكمالًا للجولة الأولى التي عُقِدت في أوائل شهر شباط الماضي، وكان من المفترض أن تُستكمل بعد أسبوعين، لكن تأخّر عقدها مرارًا لأسباب عدة كان آخرها إعلان وزير الداخلية المصري عن مشاركة "حماس" في اغتيال النائب العام المصري.
ومن المقرر أن تشهد الجولة الثانية من المباحثات المصرية الحمساوية ردّ "حماس" على المحاور والمطالب التي طرحها عليها وفد المخابرات المصرية. ماذا حصل في هذه الجولات؟ وهل يمكن أن يحدث اختراق، وأخيرًا تتحقق الوحدة التي طال انتظارها؟ وهل ستعود المياه إلى مجاريها في العلاقات الحمساوية المصرية؟ ومن يسبق من: الوحدة، أم صفحة جديدة بين مصر و"حماس"؟ نبدأ بالحوار الفتحاوي الحمساوي الذي يحدث برعاية قطرية، وهذا بحد ذاته يقلل من فرص نجاحه، لأن قطر لا تملك مفاتيح الأقفال التي تُغلق أبواب المصالحة، لذا تمّ التجاوب مع دعوتها من قبيل المجاملة، فمفتاح العديد من الأقفال التي تعيق إنجاز الوحدة بيد مصر، وهي لن تكون متحمسة لفتحها "كرمال عيون" أمير قطر الذي تربط بلاده مع مصر علاقة من العداء والتنافس، لذا لن يسّر القاهرة أن تقطف الدوحة ثمار المصالحة التي رعتها مصر منذ حكم مبارك مرورًا بحكم المجلس العسكري ومرسي وانتهاء بالسيسي، وفي وقت فيه "حماس" على خصومة مع مصر، ومن يعتقد غير ذلك عليه أن يتذكر مصير "اتفاق مكة" و"إعلان الدوحة".
اسم مكان الاتفاق لا يفسر وحده الفشل، فلم يطبق "اتفاق القاهرة" بعد حوالي خمس سنوات على توقيعه. فهناك أسباب فلسطينية تدفع لعدم إنجاز الوحدة، وتعاظم تأثيرها في السنوات الأخيرة بعد تراجع تأثير الأسباب الخارجية للانقسام، ما عدا العامل الإسرائيلي الذي لا يزال فاعلًا كون الانقسام الدجاجة التي تبيض ذهبًا لإسرائيل، فالأسباب الفلسطينية تبقى أولًا، ولو توفرت القناعة والإرادة والمصلحة لدى "فتح" و"حماس" لإنهاء الانقسام لما استطاعت العوامل الخارجية أن تحول دون إنجاز الوحدة، ولو كان الشعب حاضرًا، وليس فقط الفصائل، لما حصدنا الثمار الخبيثة.
فهناك معسكر يتحدث باسم فتح يريد أن تبقى الحركة قائدة للسلطة والمنظمة واستعادة السيطرة على قطاع غزة وتَدْخل "حماس" مثل غيرها من الفصائل تحت مظلة قيادتها، وإذا لم تتمكن من ذلك فليبق الانقسام إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
أمّا المعسكر الذي يتحدث باسم "حماس" فيريد الحفاظ على سيطرة الحركة على قطاع غزة والمشاركة إذا تمكنت في قيادة المنظمة، تمهيدًا لتبوء القيادة في السلطة والمنظمة، لأن "فتح" قادت الفلسطينيين لعشرات السنين ولم تحقق الأهداف الفلسطينية، حتى بعد تقزيمها وحصرها بإقامة دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
في ظل هذا الواقع القائم، فما يجري مجرد تضييع للوقت وضحك على الذقون، لا سيما في ظل غياب تيار ثالث قوي، بما في ذلك جولات الحوار وتوقيع الاتفاقات وتشكيل حكومات "الوحدة" "والوفاق" فهي ليس أكثر من إدارة للانقسام ومحاولة من كل طرف لإلقاء المسؤولية عن وقوعه واستمراره على الطرف الآخر.
ففتح تنتظر انهيار "حماس" تحت وطأة تدهور علاقاتها العربية والإقليمية والحصار، وتحول علاقاتها بالإخوان المسلمين إلى عبء في ظل دخولهم مرحلة السقوط بعد صعودهم في فترة ما سمي "الربيع العربي".
بينما تنتظر "حماس" انهيار "فتح" تحت وطأة الصراع الداخلي على خلافة الرئيس محمود عباس، وفقدان الخيارات والبدائل بعد فشل المفاوضات وعدم حسم تبني خيارات أخرى في ظل تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان والعدوان.
بناء على ما سبق، لن يكون مصير "جولات الدوحة" أفضل من سابقاتها، حتى لو أُعلن في ختامها عن الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وأنها ستحصل على الثقة أمام الرئيس وليس من المجلس التشريعي، فمثل هذه الحكومة لن تشكل، وإذا شكلت لن تعمّر طويلًا، وإذا عمّرت لن تحكم وسيكون مصيرها مثل حكومة الوفاق التي كفّت أن تكون كذلك منذ فترة طويلة.
عقد الجولة الثانية من حوار "فتح" و"حماس" في الدوحة لزوم ما لا يلزم، فلا يعقل أن تعطي "حماس" شيئًا جديدًا قبل أن تعرف مصير مباحثاتها مع مصر، وهذا بحاجة إلى وقت أكثر من أيام لمعرفة هل ستُفْتَح صفحة جديدة بين "حماس" ومصر، أم أن ما يجري لن يكون أكثر من تغييرات ومناورات تكتيكية لا تصل إلى اختراق نوعي؟ وما يدعو إلى تريث "حماس" أيضًا الأخبار التي أعلنها نتنياهو منذ أيام عن وجود تطور في المفاوضات غير المباشرة حول الجنود الإسرائيليين المفقودين ما بين أنهم أسرى أو جثث. كما أن الحركة لم تفقد كل الرجاء بسقوط الحكم المصري وعودة حكم "الإخوان "مع أن حبال الرهان حول هذا الموضوع أصبحت أقصر.
دخلت علاقة "حماس" مع مصر بعد إعلان وزير الداخلية المصري عن مشاركة عناصر من "حماس" في اغتيال النائب العام المصري مفترق طرق، إذ لا يمكن أن تبقى على ما هي عليه، بل هي مقبلة إما على تدهور أكبر تهدد مِصْرُ "حماسَ" فيها بأنها ستحاربها بقوة أكبر، لدرجة أن إدراجها كتنظيم إرهابي في الجامعة العربية أسوة بما حصل مع حزب الله، وربما تحاول إدراجها في قائمة المنظمات الإرهابية الدولية عبر إقرار ذلك في مجلس الأمن.
وإما أن تبدأ مسيرة جديدة تُغيّر فيها القاهرة موقفها من المقاطعة شبه الكلية لحماس مقابل أن تبدأ الأخيرة بالتغيّر بالأفعال وليس بالأقوال، وهذا يجعل أنّ هناك حاجة قبل الحكم على نتائج اجتماعات القاهرة لانتظار فترة الاختبار.
فالمطلوب أن تصبح "حماس" جزءًا من الحركة الوطنية الفلسطينية أكثر ما هي امتداد لجماعة الإخوان المسلمين كما كانت عند تأسيسها وإلى عشية "الربيع العربي"، وما يتطلبه ذلك من تغيير موقفها من نظام السيسي، ومن فك ارتباط علاقتها بالإخوان المسلمين والتنظيمات السلفية الجهادية وولاية سيناء، وهذا يعني تنسيقًا أمنيًا مستمرًا وتبادل معلومات وتسليم مطلوبين وحماية الحدود ومنع تهريب السلاح وتنقّل المطلوبين بين سيناء وقطاع غزة، وهذا أمر صعب جدًا لكنه يكاد أن يكون شرطًا لبقاء "حماس" ولعبها دورًا فاعلًا، لأن البديل أن تعقد اتفاقًا ذليلًا مع إسرائيل ما دام الانضواء تحت المظلة الفلسطينية لا يزال متعذرًا لأسباب يتحملها الطرفان المتنازعان. هذا في وقت لا تريد مصر فيه أن يبقى قطاع غزة مصدرًا لتهديد أمنها، ولا أن يسقط في حضنها كما تحاول إسرائيل منذ فك ارتباطها مع القطاع، ولا تريد مصر إعلان الحرب على "حماس"، ولا أن تعزز سلطتها في غزة بعد أن صمدت ولم تسقط في وقت لم تتحقق فيه الوحدة الفلسطينية الكفيلة بإنهاء هذا الوضع. فمصر تريد أن تتعامل مع "حماس" كفصيل مقاوِم، على أن تتخلى عن حكم غزة لصالح السلطة التي تعتبرها شرعية لتعيد ارتباط الضفة بالقطاع، ولكن أولوية المسعى المصري هو الأمن القومي المصري (وهذا من ضحاياه شعبنا في قطاع غزة) وليس الوحدة الفلسطينية رغم أنها تساعد على تحقيقه.
فالأمر الملحّ مصريًّا هو محاربة التنظيمات الإرهابية التي ترتبط بعلاقات وتعاون مع "حماس" تجده ضروريًا لأسباب عدة أيديولوجية وسياسية وعسكرية.
إن تنفيذ السياسة المصرية اصطدم سابقًا بعدم التجاوب من الرئيس محمود عباس مع المساعي المصرية لتوحيد "فتح" لفتح الطريق لإسقاط سلطة "حماس" أو تحقيق الوحدة معها، كما يصطدم بالسياسة الإسرائيلية التي تهدف إلى إدامة الانقسام وتحويله إلى انفصال دائم، والتلويح من أجل تحقيق ذلك برفع الحصار وفتح الميناء العائم، ثم ميناء ومطار إذا قدّمت "حماس" المطلوب منها الذي يبدأ بمعادلة "هدوء مقابل هدوء" ولا ينتهي بوقف تهريب وتطوير سلاح المقاومة، ووقف بناء الأنفاق والاعتراف بإسرائيل والتنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية، أي نسخة رديئة من أوسلو المقابل فيها لإسرائيل هذه المرة "حماس".
"حماس" أمام خيارات أحلاها مرّ: إما دفع ثمن تصحيح العلاقات مع القاهرة، أو هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، أو الوحدة الوطنية، والأثمان باهظة في كل الحالات، ولكن الوحدة أرحم الخيارات، وهي مفترض أن تكون ضرورة وليست خيارًا من الخيارات، فهي تفتح طريق الانتصار للقضية الفلسطينية وتفتح صفحة جديدة مع القاهرة والإقليم برمته، صحيح أنها بذلك يمكن أن تخسر أو تعرض علاقتها مع الإخوان للضرر، ولكن المطلوب ليس أن تكف عن خلفيتها الفكرية، وإنما إقامة مسافة واضحة بينها وبين الإخوان المسلمين تمامًا مثلما فعلت حركة النهضة التونسية وساهمت بذلك في إنقاذ تونس، فهل ستساهم حماس في قسطها بإنقاذ فلسطين، مثلما الأمر بحاجة أن تقوم "فتح" بقسطها، وكذلك الفصائل الأخرى حبذا لو تقوم بمبادرة منها قبل أن يفرض الشعب إرادته على الجميع، فهو لا يمكن أن يتعايش مع هذا الواقع إلى الأبد.