ماذا لو لم يوجد تصوير وفيلم يوثق جريمة قتل الشاب الفلسطيني عبد الفتاح الشريف؟ هل كانت العاصفة السياسية ستهب؟ وهل كان الجندي القاتل سيحتجز وينظر في جريمته؟ مقاطع الفيلم التوثيقي تشير إلى أن كل شيء كان يسير بشكل "إعتيادي" بدون اكتراث بالاصابة الخطرة للشاب الفلسطيني ولا بإطلاق النار عليه وإنهاء حياته.الجنود يتحركون لاسعاف جندي بإصابة طفيفة ويتركون الشاب "الشريف" يتخبط بدمائه. أما أطقم الإسعاف بما في ذلك أطباء لم يلتفتوا إلى الإصابة الخطيرة التي كانت خارج نطاق اهتمامهم !
ومضت في إسعاف الجندي فقط. والمستوطنون بدوا يحتفون وقد ظهر المستوطن المتطرف "باروخ مرزيل" وهو يصافح الجندي القاتل بعد تنفيذه جريمة القتل، وقد اعتبره "بطلا قوميا لإسرائيل". كل شيء كان يسير بشكل اعتيادي لولا كاميرا بيتسيلم، وشريط الفيدو الذي وَثَّقَ الجريمة، بالمستوى الذي قطع الطريق على أي رواية أخرى.
في غياب الفيلم، كانت رواية الناطق الأمني الاسرائيلي ستقول : تعرض جنود لاعتداء وقد صدوا " المعتدين" وقتلوهم وأزالوا الخطر ما أدى إلى تخفيض الإصابات الى إصابة خفيفة واحدة.
بيان اعتدنا على سماعه كل مرة ، والمرات التي شذت عن القاعدة هي التي جرى توثيقها بالفيديو.لهذا السبب، خرجت أصوات تطالب بمحاكمة الفلسطيني الذي صور الفيلم، واعتبر ليبرمان، " منظمة بيتسيلم جماعة من الخونة بكل معنى الكلمة".وفتح ملف " منظمة "كسر الصمت" والمنظمات الحقوقية الاسرائيلية ومعها منظمات حقوق الانسان التي تحترم القانون الدولي.
إسرائيليون كثر يعتمدون مقولة " أقتل من جاء لقتلك " في صراعهم مع الشعب الفلسطيني. المقولة هي "نص توراتي" له أكثر من تفسير، أحد التفسيرات تقول : بمجرد توفر نية للقتل لدى الطرف الاخر فهذا يبرر قتله. والتفسير الشائع يسمح بقتل صاحب أي محاولة لقتل أو لايذاء " اليهود". وانسجاما مع المقولة النص فقد وَقَّع عشرات الآلاف من الإسرائيليين على عريضة تطالب بإطلاق سراح الجندي القاتل باعتباره بطلا قوميا. وتظاهر المئات أمام القاعدة العسكرية التي يُحتجز فيها الجندي وطالبوا بإطلاق سراحه. واعترض وزراء وأعضاء كنيست على قرار حجز الجندي تمهيدا لمحاكمته .
خلفية موقف معسكر المتدينين الذين يعتمدون المرجعية الدينية عبر عنها حاخام اليهود الشرقيين في إسرائيل إسحق يوسيف حين قال بالامس : " يُحظَر على غير اليهود أن يعيشوا على "أرض إسرائيل"، وإذا عاشوا فيجب أن يكونوا خدما لليهود، ولو وُجِد نظام أقوى في إسرائيل لطردهم إلى السعودية". مقابل ذلك، يحدد القانون الدولي، واتفاقات جنيف الرابعة، حالات الدفاع عن النفس بإطلاق النار وباستخدام القوة بالتالي : " حالة الخطر القصوى التي تكون فيها حياة الجنود مهددة بخطر داهم".
أما في حالة استسلام المهاجم أو الكف عن التهديد وانحسار الخطر وزواله، في هذه الحالات يُحَرِّم القانون الدولي إطلاق النار وقتل الطرف الاخر.
بل يعتبر قتل الأسرى والجرحى والذين توقفوا عن القتال برفع الايدي وبرمي السلاح جانبا وكل الذين لا يشكلون خطرا حقيقيا على الخصم يعتبر القتل في هذه الحالات جرائم حرب يحاكم عليها القانون. بون شاسع، بين مرجعية إطلاق نار على قاعدة "أقتل من جاء ليقتلك"، ومرجعية إطلاق النار على قاعدة في"حالة خطر قصوى".
هو الفارق عينه بين القانون الدولي وأيديولوجيا الأساطير التي تميز بين شعب وآخر. الفيديو الذي وثق الإعدام الميداني للشاب الفلسطيني عبد الفتاح الشريف، وردود الفعل الاسرائيلية المختلفة على العملية، غَلَّب كفة "أقتل من جاء ليقتلك".
ولا يغير من هذا الاستنتاج، استنكار نتنياهو رئيس الحكومة ويعلون وزير الجيش وايزنكوت رئيس الاركان للإعدام الميداني الذي مارسه الجندي الاسرائيلي في الخليل، معتبرين ما حدث "مخالفا لأخلاق الجيش".
بل لقد أسهب رئيس الحكومة في امتداح الجيش الاسرائيلي عندما قال " الجنود أولادنا يحافظون على قيم أخلاقية عالية وهم يحاربون بشجاعة قتلة متعطشين للدماء في ظروف عملياتة صعبة". مغفلا تقارير المنظمات الحقوقية الإسرائيلية والفلسطينية والدولية التي تقول عكس ذلك.
مغفلا حصاد جنوده البالغ 184 ضحية بينهم 25% أطفال" مقابل 43 قتيلا إسرائيليا سقطوا على يد "المتعطشين للدماء" الذين اختاروا الجنود والمستوطنين أهدافا لهم في الاكثرية الساحقة من عملياتهم. ومغفلا حقيقة أنه لم يتم محاكمة جنود إسرائيليين بسبب الإعدام الميداني لشبان وفتيات فلسطينيين وللعامل الاريتيري، ولم تسمح حكومة نتنياهو للجان الدولية المختصة بالدخول اى الأراضي المحتلة للتحقيق في مسلسل الانتهاكات الاسرائيلية والجرائم. وسبق وان رفضت تقرير غولدستون الذي أدان الحكومة الاسرائيلية بتهمة ارتكاب جرائم حرب أثناء العدوان على قطاع غزة.
ما حدث في الايام القليلة الماضية قدم الوجه الحقيقي لدولة إسرائيل للعالم، بوصفها دولة ترتكب جرائم حرب وتعتمد ثقافة عنصرية تؤيد قتل الاخر وتميز بين دم ودم، وفي الوقت نفسه تضع نفسها ويضعها النظام الدولي فوق القانون، وفوق هذا وذاك تعتبر نفسها ويعتبرها النظام الدولي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط برمته، مقدمة بذلك نموذجا صارخا على اللا عدالة الإنسانية برعاية النظام الدولي أيضا. لم تكن المشكلة لدى جندي إسرائيلي ضل الطريق بجريمته الحمقاء، المشكلة في زملائه الجنود والضباط الذين يتحملون معه المسؤولية عن الجريمة، المشكلة في المؤسسة العسكرية التي تتبنى سياسة التنكر للحقوق الفلسطينية الوطنية والانسانية جملة وتفصيلا.
المشكلة في المؤسسة السياسية الإسرائيلية التي تعمق الاحتلال وتذهب الى آخر الشوط في أطماعها الكولونيالية المموهة بحقوق تاريخية ممنوحة من السماء. وهنا يجوز القول، أن الإحتلال والأطماع والجشع الكولونيالي يصل الى أبشع صوره متجسدا في نهب الارض واستيطانها وضمها وفي التطهير العرقي وفي الإعدامات الميدانية للشبان والفتيات، وفي التعامل مع قاتل كبطل قومي، وفي تزوير ما يجري واستغفال عقول البشر، هنا وفي كل مكان. في مسرح الجرائم، هذا الحاجز الذي قتل الجنود فيه، الشاب عبد الفتاح بدم بارد، سبق له وقتل ستة شبان، قد تتشابه طريقة قتله، وسبق للحواجز الاخرى قتل العشرات، لطالما يتم تكييف حياة ومصالح 180 الف مواطن للحفاظ على راحة 300 مستوطن متطرف عصابي إسرائيلي يتمركزون قي قلب مدينة الخليل.
هذه المعادلة الفاجعة المسكوت عنها والمتواطأ عليها تنسحب على الوطن الفلسطيني. بقي القول إن وصف المشهد الكئيب وكشف مفارقاته وتناقضاتة يكتسب اهميته إذا ما ارتبط بوضع سياسات تعزز صمودنا بمشاركة الفئات الاوسع من الشعب والاصدقاء والحلفاء وكل من له مصلحة في إنهاء الاحتلال وهزيمة العنصرية الفاشية.