ربما يكون "ملف" نمط حكم رجب أردوغان بات مطروحاً على مستوى عال جدا في الاستراتيجية الأوروبية والغربية. فربط اسم الرئيس التركي بالإسلام الراديكالي ليس مسألة عابرة.
منذ استحداثه لتعبير "الهلال الشيعي" الذي استبق فيه اتجاه الصراع العام في المنطقة إلى التمحور بين الغرب والنفوذ الإيراني بشكل متفجِّر، الاتجاه الذي لا يزال يعبِّر عن نفسه بالصراع الكبير بين السعودية وإيران (بعد انسحاب الغرب من هذا الصراع بفعل الاتفاق النووي)، يبدو الملك عبد الله، عاهل الأردن، جاهزاً مرةً أخرى لتحديد، أو على الأقل كَشْفِ اتجاه آخر كبير ومختلف للصراع. في الحالتين السابقة والحالية يعلن العاهل الهاشمي بدء مرحلة جديدة.
فهل نستطيع أن نصنِّف المعلومة التي سرّبتها عنه صحيفة "الغارديان" قبل أيام قليلة في هذه الخانة، خانة اتجاه جديد للصراع في المنطقة أو تغييرات جديدة على خارطته؟
الصحيفة البريطانية، (التي تواصل نجاحاتها المهنية في سبر منطقة الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة بشكل لافت وبما يشكِّل "درساً" للصحافة الغربية وربما العربية!)، تنقل أن ملك الأردن قال لأعضاء قياديين في الكونغرس الأميركي بينهم السناتور جون ماكين في منتصف كانون الثاني المنصرم بالحرف أن " الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان يعتقد أن مشاكل المنطقة يمكن حلُّها عن طريق أساليب الإسلام الراديكالي". وقال " الحقيقة أن تدفُّقَ الإرهابيين إلى أوروبا هو جزءٌ من السياسة التركية. فهو من ناحية صفعة، ومن الناحية الأخرى محاولةٌ للخروج من الورطة".
بحد ذاته هذا كلام خطير بل أخطر من خطير لم تنفه ولم تؤكده السفارتان الأردنيّتان في لندن وواشنطن حتى الآن. هذا يعني نوعا من تأكيده.
هذا الاتهام عبر تسريبه الراهن بعد اعتداءات بروكسل، إذا ثبتت صحته بعد اعتداءات باريس، يعني طرح الغرب، وخصوصا الاتحاد الأوروبي لكل المستقبل السياسي للرئيس التركي على بساط البحث. فالمسألة هنا باتت تتعلّق بالأمن الأوروبي كله. مما يعني أن الانتقادات الغربية والأوروبية الحادة لـ"الانحراف السلطوي" لأردوغان يمكن أن تتحول إلى ما هو أشمل من ضمن التحولات الجديدة التي تشهدها المنطقة بعد الاتفاق النووي وبالأخص بعد الدخول الحيوي الروسي على الصراع في سوريا.
إذن ربما يكون "ملف" نمط حكم أو حتى ظاهرة أردوغان بات مطروحاً على مستوى عال جدا في الاستراتيجية الأوروبية والغربية. فربط اسم الرئيس التركي بالإسلام الراديكالي ليس مسألة عابرة أو يمكن أن تكون عابرة.
لقد عقد الاتحاد الأوروبي اتفاقية كبيرة مع تركيا حول اللاجئين لوقف تدفقهم إلى أوروبا. بينها دفْعُ أموال وفيرة لأنقرة. مما يطرح السؤال كيف يمكن أن يُكافَأ الرئيس التركي في وقت توحي الانتقادات بأنه يجب أن يُعاقَب؟
الدول الكبيرة كما يعلِّمنا التاريخ لا تتصرف على أساس إما أبيض أو أسود. بل بأشكال أكثر تعقيدا. فإذا كان أردوغان بات يشكِّل فعليا خطراً على الأمن الأوروبي برمته، كما تشير المعلومة المسرّبة عن الملك عبدالله، وهي بالتالي مسرّبة عن الأميركيين، فهذا يتطلّب الانتباه إلى عملية معقَّدة دخلها الصراع في الشرق الأوسط سيكون بينها إعادة "تصويب" الدور التركي.
طبعا الرئيس التركي الذي دخل "لعبة الأمم" من بابها العريض بعد انفجار الأزمة السورية وبطريقة تغيِّر المعادلات الداخلية والخارجية التي قامت عليها الجمهورية التركية منذ تأسيسها قبل حوالي قرن، يعرف أيضا الوجوه الملتبسة لـ"لعبة الأمم" هذه من حيث أن الدول الكبرى الأوروبية لم تكن بريئةً سابقا في تعزيز الإسلام الراديكالي ولاسيما الداعشي لأن المرحلة الأولى من تدفُّقِ التكفيريين المسلحين عبر تركيا إلى سوريا والعراق لم تكن من دون علم المخابرات الأوروبية الأساسية.
لكنْ الآن وبعدما وصل سيف الإرهاب إلى العنق الأوروبي تريد أوروبا إفهام أردوغان ترغيبا وترهيبا أن اللعبة السابقة انتهت وعليه التكيّف مع القواعد الجديدة للتوافق الأميركي الروسي ودخول أوروبا في "حرب عالمية" على الإرهاب.
صحيح أن الحرب السورية طويلة ولكن كما سبق لي التكرار أنها الآن باتت حربا في "بيئة سياسية سلمية". وأكبر مفارقات هذه الحرب الأخيرة أن تحظى فيها عملية دخول قوات النظام السوري إلى تدمر بترحيب عالمي في مقدمه تصريح ممتنٌ لهذا الإنجاز من أمين عام الأمم المتحدة بان كي - مون باعتباره إنجازا روسيا.
دون أن ننسى، إنصافاً للحياة السياسية التركية، أن المعارضة التركية ومعها المثقفون والفنانون والشباب والنساء الليبراليون المدينيون لا تتردد منذ أكثر من ثلاث سنوات في تكرار أن هذه السياسات الأردوغانية أصبحت خطراً على الأمن القومي التركي. ودعوني أُضِف كمراقب خارجي أنها سياسات ضربت "النموذج التركي" للديموقراطية السياسية والحداثة وأدخلت تركيا في مقلب شرق أوسطي من الاستبداد والظلامية.
عن النهار اللبنانية