مع كل انقلاب ربيعي، تبدأ سلسلة الاستذكار الفلسطيني لأسماء الشهداء القادة، بعد شهداء عيد الحب الثلاثة (حمدي التميمي، وأبو حسن بحيص، ومروان كيالي) (14 /2 /1988) بتفجير سيارتهم في قبرص؛ دلال المغربي ورفاقها (11/ 3/ 1978)، والشيخ أحمد ياسين (22 /3 /2004)، وبعد نحو أسبوع وديع حداد (28 /3 /1978). ويأتي 10 نيسان (إبريل) فتأتي ذكرى الكمالين؛ عدوان وناصر، ومعهما أبو يوسف النجار، العام 1973. ثم بعدهم بأسبوع رفيق درب كمال عدوان وعضو خليته الأولى، خليل الوزير (16/ 4/ 1988)، يليه بيوم واحد عبدالعزيز الرنتيسي (17 /4 /2004).
هذا العام، يأتي انقلاب آذار الربيعي، والهبة الفلسطينية تخطو قريبةً من شهرها السادس. هي أول هبة/ انتفاضة في عصر "الفيسبوك" ووسائل التواصل الاجتماعي. ولا تصبح هذه الوسائل منافسة للصحف الورقية وملصقات الحائط التي كانت شوارع المخيمات تعج بها مع كل موجة شهداء.
في رواية "حياة معلقة"، أحد الشخصيات المحورية لعاطف أبو سيف، هو شخص يمتلك مطبعة، يهرع له الشبان في المخيم كلما سقط شهيد، وكلما أعد ملصقاً بكى، ويحتفظ بالصور في أدراجه. وعلى مدى سنوات طوال تتراكم صور الشهداء فوق بعضها، وتتراكم في الذاكرة، وتختلط، ويتساءل "إلى متى؟!". ويرفض ابنه أن يصنعوا له "بوستر" عندما يستشهد.
وفي عصر "الفيسبوك"، لا توضع صور الشهداء فقط، بل وبعض الشهداء يكون قد أعد وصيته، مدركاً أنّ جمهوره سيكون هنا! حتى أن شهيداً كتب، بقلم الرصاص، وصية مملوءة برمز "الهاشتاغ" (#) المستخدم في نشر أخبار "الفيسبوك".
و"الفيسبوك"، كما وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، إعلام "الكثرة" الموجه إلى "الكثرة"، وليس كالإعلام التقليدي الجماهيري الذي توجهه النخبة للجمهور. الآن في الإعلام الجديد، من يعد المواد وينشرها كثيرون جداً، يستهدفون "شبكاتهم" الاجتماعية. وموادهم الإعلامية لا تؤرشف، ولا تشكل سجلاً يسهل العودة إليه. فيصبح هناك، بالمحصلة، تواصل أكثر ولكن مع تأثير أقل، ونشر أكثر مع انتشار أقل، وسرعة في البث وسرعة في التلاشي، ولكنه عصر فيه وسيلة ليصنع كلٌ مناسباته الخاصة.
في ذكرى الشهداء، يتذكر كثير منا شهداءنا القادة. وكثيرون يتذكرون وينشرون الآن عن شهدائهم الأقرب، أو الشهداء العائليين. فصديقي في غزة يضع صورة والده الشهيد وهو يطلق قذيفة صاروخية في "الجبهة"، وصديقي في سخنين يضع صورة قبر ابن عمه، شهيد يوم الأرض. وفي كل يوم شهداء جدد.
بات شهداؤنا يذهبون مبكرا، ومعهم ضحكاتهم وشقاوتهم وأحلامهم. ما يزال أولاد وبنات رام الله يتذكرون شهيد ذكرى النكبة، الطفل، نديم نوارة، الذي ذهب وهو يحمل حقيبته المدرسية، في العام 2014، فاستشهد برصاصة قناص إسرائيلي. وظل الأصدقاء يضعون صوره على قمصانهم، ونتذكر ولعه بالقبعات، وبكرة السلة، ولباس الكشافة، ولكن والده لم يعد ذات الشخص؛ ما يزال يستخدم بريده الإلكتروني "صالون نديم" (nadeemsalon2@yahoo.com)، ولكن رسائله الآن عن الملاحقات القانونية، وعن تأسيس مؤسسة "مساءلة" لمتابعة العنف ضد الأطفال. ويخبرك بآخر القصص، فيقول إنّ أهل الشهيد محمود شعلان، كادوا أن يصدقوا الرواية الصهيونية أنّ ابنهم ذهب إلى "عملية طعن"، لولا التدقيق في الرواية وتتبع الشهود. ويخرج رفيقنا هاتفه ويبحث، حتى تأتيك شهادة مدرسية لمحمود شعلان، تكاد تكتمل العلامات فيها، وترى ما حققه الشهيد، ويريك صوره، ويخبرك عن انتظاره التخرج لدراسة الطب، وبيته في دير دبوان، وكيف قتله جواز سفره الأميركي؛ فهو ذهب ليمر عبر حاجز الاحتلال، مد يده ليخرج الجواز، فأطلق الرصاص عليه جندي يستسهل القتل، والآن صوره وابتساماته وأحلامه وشهاداته معلقة فوق جدران المدرسة.
لا قادة يستشهدون الآن، بل أبناء وبنات لم يرسلهم قادة، ولم يوجههم قادة، ولم يُعدّهم القادة. وأهاليهم لا يتوقعون أن يأتي لهم القادة بشيء من حقوقهم، أو أن يحموهم مستقبلا.
أسأل صديقة زارت والدة شهيد، فتقول لي: "الأم لم تعتد أن تكون أم شهيد، لم تتوقع ذلك، لا تفهم ما حولها".
كثرة متشظية من الاستشهاد والألم، وأخبار عبر وسائل يتحدث فيها الناس للناس، لا ينتظرون حديث القادة الذين كانوا يوماً يصعدون للمنصات أمام الجماهير، ويخاطبونهم عبر أثير الراديو، ويسيرون أمامهم، ولكنهم ينتظرون بقلق شيئاً آخر، ينتظرون خلاصاً، بينما يدينون منطق الصمت.
عن الغد الاردنية