نفسى مصر تتقدم وترجع ميت سنة لورا!!

thumbgen (16)
حجم الخط
 

أنهى صديقى الإسكندرانى مكالمته التليفونية بأمنية مختلطة بتنهيدة وممتزجة بحسرة قائلاً لى: «نفسى مصر تتقدم وترجع ميت سنة لورا»!!، لاحظ واستنتج اندهاشى من فترة الصمت الطويلة عبر الهاتف، فبادر قائلاً: «طبعاً انت مستغرب ومعتبرنى مجنون، لأ أنا فعلاً بقصد معنى كلامى بالحرف الواحد وبكره هتعرف إن كلامى صح»، أنهينا المكالمة وأنا أعتبر عبارة صديقى نوعاً من النوستالجيا التى تهاجمنا نحن أصحاب الشعر الأبيض عندما نتبادل الذكريات، ولكن تكررت وتأكدت المسألة مرة أخرى لكنها هذه المرة من صديق شاب خليجى جاء لحضور برنامج تليفزيونى، وكان قد قرر أن يقضى أسبوعاً فى الإسكندرية محملاً بمشاهد أفلام الأبيض والأسود عن الإسكندرية وفى خلفية ذاكرته أغنية فيروز عن شط إسكندرية، اندهشت عندما أخبرنى بأنه لم يطق أن يبيت ليلة واحدة من هول الصدمة، وبرغم أنه خليجى إلا أنه لاحظ المد السلفى الرهيب فى تلك المدينة التى كانت رمز الكوزموبوليتان والتنوع والانفتاح والتحرر، وفزع من كم العشوائية التى باتت ترسم بورتريه ماريا التى كان ترابها زعفران، فصار جمالها وحسنها تراباً وشبحاً قد مضى وتوارى، اعتبرت الإسكندرية هى ترمومتر قياس حمى النوستالجيا وحلم الماضى، فالصديق الأول ابن الإسكندرية البار الذى رفض أن يغادرها وتحسر على الماضى، والثانى جاء محملاً بأمنيات وأحلام انكسرت على أرض الواقع واصطدمت بجدار الحاضر، تأملت عبارة صديقى وعدت إلى الوراء بعجلة الزمن مائة سنة، سنة 1916، ذهبت إلى ميناء الإسكندرية، وجدت هناك شاباً كفيفاً يصعد سلم السفينة بحذر مستنداً على مرافق له، كان هذا الشاب الصعيدى ابن المنيا مبعوثاً مصرياً إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه، اسمه طه حسين، ستتجه السفينة به إلى مونبيلييه ثم منها سيذهب إلى مدينة النور باريس، حيث سيأتى لنا بقبس التنوير، بالشك، بالتمرد، بالفكر النقدى، بغربلة التراث وقراءة التاريخ بعين ثورية مختلفة، كان قد حصل على الدكتوراه فى أبى العلاء المعرى رفيق ظلام بصره ونور بصيرته، ورحل إلى باريس للحصول على الدكتوراه فى ابن خلدون حيث يكمل الأدب بالتاريخ ويمزج الشعر بعلم الاجتماع، اتجهت إليه مهرولاً وأنا أصرخ: «بلاش يا دكتور طه تروح باريس، هتتعب نفسك ع الفاضى، أحفادك سيسجنون بسبب أفكارك التنويرية ودعوتك لكى يكون التعليم كالماء والهواء، لا تصعد السفينة يا عميد الأدب فنحن قد فقدنا البوصلة والدفة والمجداف، حفيد من أحفادك فى السجن الآن لأنه كان يريد إنقاذ سمعة الإسلام من أفكار سيدنا الذى كان يضربك وأنت طفل فى الكتّاب، وشيخك الذى كان يؤنبك ويعاقبك على أسئلتك الجسورة فى رواقه وأسفل عموده وأنت شاب، مما جعلك تتجه إلى حيث نور جامعة القاهرة برحابة أفكارها وتنوع مدارسها وتفتح أساتذتها، حفيد آخر نزيل الزنزانة الآن بسبب رواية، وشاعرة تنتظر السجن بسبب تويتة، وهى نوع جديد يا دكتور طه من التعبير عدد حروفه 140 حرفاً فقط، أناشدك يا دكتور طه ألا تتعب نفسك وخفف عنك وعثاء السفر وجهده خاصة أن حرباً عالمية ستداهمك هناك، وستصل إليك الأنباء وأنت راقد فى قبرك بعد مائة عام، أن المبدعين يُسجنون فى بلادى نتيجة بيت شعر أو درس تاريخ أو فصل رواية، اليوم فى 2016 سأتقبل عزاءك يا دكتور طه لأنك اليوم قد مت فعلاً وأغمضت عينيك ورحلت فكراً وتنويراً بعد أن رحلت جسداً»، طه حسين مات فى 2016 عظّم الله أجركم.

عن الوطن المصرية